قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا [ ص: 370 ] قوله تعالى:
فلم يزدهم دعائي إلا فرارا أي: تباعدا من الإيمان
"وإني كلما دعوتهم" إلى الإيمان والطاعة
"جعلوا أصابعهم في آذانهم" لئلا يسمعوا صوتي
"واستغشوا ثيابهم" أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني
"وأصروا" على كفرهم
"واستكبروا" عن الإيمان بك واتباعي
"ثم إني دعوتهم جهارا" أي: معلنا لهم بالدعاء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: بأعلى صوتي
"ثم إني أعلنت لهم" أي: كررت الدعاء معلنا
"وأسررت لهم إسرارا: قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: يريد أكلم الرجل بعد الرجل في السر، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك
"فقلت استغفروا ربكم" قال المفسرون: منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم
نوح: "استغفروا ربكم" من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد
يرسل السماء عليكم مدرارا قد شرحناه في أول [الأنعام: 6] ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة .
قوله تعالى:
ما لكم لا ترجون لله وقارا؟ فيه أربعة أقوال .
أحدها: لا ترون لله عظمة، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء، nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة .
والثاني: لا تخافون عظمة الله، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء، nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة .
والثالث: لا ترون لله طاعة، قاله
ابن زيد .
والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج . [ ص: 371 ] "وقد خلقكم أطوارا" أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئا بعد شيء إلى آخر الخلق . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه: أطوار . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13417ابن فارس: الطور: التارة، طورا بعد طور، أي: تارة بعد تارة . وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قررهم، فقال تعالى:
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود، nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة "طباق" بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف . وقد بينا هذا في سورة [الملك: 3] .
قوله تعالى:
وجعل القمر فيهن نورا فيه قولان .
أحدهما: أن وجه القمر قبل السموات، وظهره قبل الأرض يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو .
والثاني: أن القمر في السماء الدنيا . وإنما قال:
"فيهن" لأنهن كالشيء الواحد، ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13674الأخفش nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج، وغيرهما . وهذا كما تقول: أتيت
بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت السفن،
"وجعل الشمس سراجا" يستضيء بها العالم
"والله أنبتكم من الأرض" يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، هو
[ ص: 372 ] آدم "نباتا" قال
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل: معناه: فنبتم نباتا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: "نباتا" محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتا . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر، على غير المصدر لأنه جاء في نبت . ومثله:
وتبتل إليه تبتيلا [المزمل: 8] فجاء على "بتل"
قال الشاعر:
وخير الأمر ما استقبلت من ه وليس بأن تتبعه اتباعا
فجاء على اتبعت .
وقال الآخر:
وإن شئتم تعاودنا عوادا
فجاء على "عاودنا" وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى .
قوله تعالى
سبلا فجاجا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء: هي الطرق الواسعة .
قوله تعالى:
واتبعوا من لم يزده ماله وولده قرأ أهل
المدينة، nindex.php?page=showalam&ids=16447وابن عامر، nindex.php?page=showalam&ids=16273وعاصم، "وولده" بفتح اللام والواو . وقرأ الباقون "ولده" بضم الواو،
[ ص: 373 ] وسكون اللام . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل
العرب، والعرب، والعجم، والعجم . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن، nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبو العالية، nindex.php?page=showalam&ids=17344وابن يعمر، والجحدري: "وولده" بكسر الواو، وإسكان اللام . قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء .
قوله تعالى:
ومكروا مكرا كبارا قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12004أبو رجاء، وأبو عمران: "كبارا" برفع الكاف وتخفيف الباء . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17344ابن يعمر، nindex.php?page=showalam&ids=11838وأبو الجوزاء، وابن محيصن "كبارا" بكسر الكاف مع تخفيف الباء . والمعنى "كبيرا" يقال: كبير، وكبار . وقد شرحنا هذا في أول [ص] ومعنى "المكر": السعي في الفساد . وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان
بنوح "وقالوا لا تذرن آلهتكم" أي: لا تدعن عبادتها
"ولا تذرن ودا" قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11962أبو جعفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع بضم الواو . والباقون بفتحها . وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم . وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين
آدم ونوح، ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا . ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت . وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمين بهذه الأسماء . وقيل: إنما هي أسماء لأولاد
آدم، مات منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها . ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صورا خمسة . ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: لمن نعبد؟ قال: هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصورة في مصلاكم؟! فعبدوها .
[ ص: 374 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم
نوح، ثم صارت إلى
العرب، فكان "ود"
لكلب، "وسواع"
لهمدان، و"يغوث"
لبني غطيف، وهم حي من
مراد . وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15472الواقدي: كان "ود" على صورة رجل، و"سواع" على صورة امرأة، و"يغوث" على صورة أسد، و"يعوق" على صورة فرس، و"نسر" على صورة النسر من الطير .
قوله تعالى:
وقد أضلوا كثيرا فيه قولان .
أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيرا من الناس، أي: ضلوا بسببها .
والثاني: وقد أضل الكبراء كثيرا من الناس
"ولا تزد الظالمين" يعني: الكافرين
"إلا ضلالا" وهذا دعاء من
نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون .