القول في تأويل قوله تعالى :
[ 122 ]
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
وما كان المؤمنون لينفروا كافة أي : ما صح ولا استقام ، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس
فلولا نفر أي : فحين لم يمكن نفير الكافة ، ولم يكن مصلحة ، فهلا نفر
من كل فرقة منهم طائفة أي : من كل جماعة كثيرة ، جماعة قليلة منهم
[ ص: 3299 ] يكفونهم النفير :
ليتفقهوا في الدين أي : ليتعلموا أمر الدين من النبي صلى الله عليه وسلم
ولينذروا قومهم أي : يعلموهم ويخبروهم ما أمروا به ، وما نهوا عنه :
إذا رجعوا إليهم أي : من غزوتهم
لعلهم يحذرون أي : فيصلحون أعمالهم .
تنبيهات :
الأول : قال
السيوطي في ( " الإكليل " ) : في الآية أن
الجهاد فرض كفاية ، وأن
التفقه في الدين ، ونشر العلم ، وتعليم الجاهلين كذلك ، وفيها
الرحلة في طلب العلم .
واستدل بها قوم على
قبول خبر الواحد ، لأن الطائفة نفر يسير ، بل قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : إنها تطلق على الواحد . انتهى .
وقال
الجصاص في ( " الأحكام " ) : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة ، ولا تعم الحاجة إليها ، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين :
أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به ، وإلا لم يكن إنذارا .
والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ، لأن معنى قوله :
لعلهم يحذرون ليحذروا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد ، لأن الطائفة تقع على الواحد ، فدلالتها ظاهرة . انتهى .
وفي " القاموس " : أن الطائفة من الشيء القطعة منه ، أو الواحدة فصاعدا ، أو إلى الألف ، أو أقلها رجلان ، أو رجل ، فيكون بمعنى ( النفس الطائفة ) .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع ، فجمع ( طائف ) ، وإذا أريد به الواحد ، فيصح أن يكون جمعا ، وكني به عن الواحد ، وأن يجعل كـ ( راوية ) و ( علامة ) ، ونحو ذلك .
الثاني : إن قيل : كان الظاهر في الآية : ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، فلم وضع موضع ( التعليم ) الإنذار ، وموضع ( يفقهون ) يحذرون ؟
[ ص: 3300 ] يجاب : بأن ذلك آذن بالغرض منه ، وهو اكتساب خشية الله ، والحذر من بأسه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي رحمه الله : كان اسم الفقه في العصر الأول ، اسما لعلم الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفوس ، ومفسدة الأعمال ، والإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية . كذا في ( " العناية " ) .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الآية : وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه ، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ، ويؤمونه من المقاصد الركيكة ، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ، ومنافسة بعضهم بعضا ، وفشو داء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم . فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل :
لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا انتهى .
الثالث : قال
القاشاني في الآية : يجب على كل مستعد من جماعة ، سلوك طريق طلب العلم ، إذا لا يمكن لجميعهم ، أما ظاهرا فلفوات المصالح ، وأما باطنا فلعدم الاستعداد .
ثم قال : والتفقه في الدين هو من علوم القلب ، لا من علوم الكسب ، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه ، كما قال :
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه والأكنة هي الغشاوات الطبيعية ، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله ، وليسلك طريق التزكية والتصفية ، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه ، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب ، ضارب بعروقه في النفس ، ظاهر أثره على الجوارح ، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم ، وإلا لم يكن عالما .
ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة
[ ص: 3301 ] الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله :
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لكون رهبة الله لازمة للعلم ، كما قال :
إنما يخشى الله من عباده العلماء وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله :
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإذا تفقهوا ، وظهر علمهم على جوارحهم ، أثر في غيرهم ، وتأثروا منه ، لارتوائهم به ، وترشحهم منه ، كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلزم الإنذار الذي هو غايته . انتهى .
ولما أمر تعالى في صدر السورة ، بالبراءة من مشركي
العرب وقتالهم ، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم ، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك ، فقال سبحانه :