القول في تأويل قوله تعالى:
[179]
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون
وقوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ; لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، وعرف القصاص ونكر الحياة ; ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل
مهلهل بأخيه، حتى كاد يفنى
بكر بن وائل!. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..!. فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ; سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود. فكان
[ ص: 403 ] القصاص سبب حياة نفسين...!. هذا ما يستفاد من " الكشاف ".
لطيفة:
اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات...! وذلك لأن
العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل. وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل. وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها...! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته.
قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند
العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك..!
الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو:
القصاص حياة أقل حروفا، فإن حروفه عشرة، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر..!
الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه!.
الثالث: أن تنكير:
حياة يفيد تعظيما، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى:
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
[ ص: 404 ] الرابع: أن الآية فيه مطردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما! وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا..
الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة..!
السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف. بخلاف قولهم. فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها. وحذف " قصاصا " مع القتل الأول، " وظلما " مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه.
السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل...
الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين - الذي هو الفناء والموت - محلا ومكانا لضده - الذي هو الحياة. واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة... ذكره في " الكشاف ". وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه.
التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره. فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره: إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فحبست، ثم تحركت فحبست، لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة!.
العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ; لأن الشيء لا ينفي نفسه!.
الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون.
[ ص: 405 ] الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ; إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف. وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.
الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.
الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل.
الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل.
السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل على النفي، والإثبات أشرف ; لأنه أول، والنفي ثان عنه.
السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله:
في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة..!
الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه..!
التاسع عشر: أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا..! وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجرح معا، لشمول القصاص لهما. والحياة أيضا في قصاص الأعضاء ; لأن قطع العضو ينقص أو ينغص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل!.
[ ص: 406 ] في أول الآية:
ولكم وفيها لطيفة، وهي: بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم..! انتهى.
وقوله تعالى:
يا أولي الألباب المراد به: العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف. فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود، صار ذلك رادعا لهم ; لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه. فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكف والامتناع..! إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب، ثم علل ذلك بقوله:
لعلكم تتقون أي: الله تعالى بالانقياد لما شرع، فتتحامون القتل.