[ ص: 3882 ] سورة الإسراء
وتسمى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، ولم يحك خلاف في كونها مكية.
نعم استثنى بعضهم منها:
ويسألونك عن الروح وآية
وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله تعالى
إن الباطل كان زهوقا وآية
قل لئن اجتمعت الإنس والجن الآية ، وقوله
وما جعلنا الرؤيا الآية ، وقوله
إن الذين أوتوا العلم من قبله لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.
[ ص: 3883 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :
[1]
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير
يمجد تعالى نفسه بقوله :
سبحان وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله ، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره . وقوله تعالى :
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام أي : سيره منه ليلا . و ( أسرى ) بمعنى ( سرى ) يقال : أسراه وأسرى به وسرى به . فهمزة ( أسرى ) ليست للتعدية ، ولذا
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بالباء . وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في ( أسرى ) لإفادة السرعة في السير ، ولذا أوثر على ( سرى ) .
والإسراء سير الليل كله ، كأسرى ، فقوله تعالى :
ليلا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود . مثل : أسعفت مرامه . مع أن الإسعاف قضاء الحاجة . أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر . وقد استظهره
الناصر في " الانتصاف " قال : ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره ، قوله تعالى :
لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية ، وكذلك المفرد . فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين ، وهو التثنية ، مراد مقصود ، وكذلك أريد الإيقاظ ؛ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله :
إنما هو إله واحد ولو اقتصر على قوله : { إنما هو إله } لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له . والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية .
[ ص: 3884 ] وقيل : سر قوله : { ليلا } إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه . أي : أنه كان في بعض الليل ، أخذا من تنكيره . فقد نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم ، فلا تقول : أرقت الليل ، وأنت تريد ساعة منه ، إلا أن تقصد المبالغة . بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك . فلما عدل عن تعريفه هنا ، علم أنه لم يقصد استغراق السرى ، وهذا هو المراد من البعضية . وجوز بعضهم أن يكون ( أسرى ) من ( السراة ) وهي الأرض الواسعة . وأصله من الواو ، أسرى مثل أجبل وأتهم ، أي : ذهب به في سراة من الأرض ، وهو غريب . وفي تخصيص الليل إعلام بفضله ؛ لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى ، ولذلك
كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل . والمراد ( بعبده ) خاتم أنبيائه
محمد صلى الله عليه وسلم . وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره - ما لا يخفى .
والعبد لغة : الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة ، كالعبادة والعبودة .
قال
ابن القيم في (" طريق الهجرتين ") :
أكمل الخلق أكملهم عبودية . وأعظمهم شهودا . لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين . ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=943993« أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك » .
ثم قال : ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ؛ لتكميله مقام العبودية والفقر . وكان يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=693951« أيها الناس ! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ، إنما أنا عبد » . وكان يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653189« لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » . وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته : مقام
[ ص: 3885 ] الإسراء ، ومقام الدعوة ، ومقام التحدي . فقال :
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال :
وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقال :
وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة : أن
المسيح يقول لهم : اذهبوا إلى
محمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فنال ذلك بكمال عبوديته لله ، وبكمال مغفرة الله له . انتهى .
وقوله تعالى :
من المسجد الحرام يعني
مسجد مكة المكرمة . سمي حراما ، كبلده ، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره ولا كلئه . وقوله سبحانه :
إلى المسجد الأقصى هو
مسجد بيت المقدس ، وكان يعرف بهيكل
سليمان ؛ لأنه الذي بناه وشيده و :
الأقصى بمعنى الأبعد . سمي بذلك لبعده عن
مكة ، وقوله تعالى :
الذي باركنا حوله أي : جوانبه ببركات الدين والدنيا ؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار . فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها . فبركته إذن مضاعفة ؛ لكونه في أرض مباركة ، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى . والمساجد بيوت الله . ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم ، فبورك فيه بركتهم ويمنهم أيضا .
وقيل في
خصائص ( الأقصى ) : إنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى . بيت نوه الله به في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة . لأجله أمسك الله الشمس على
يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب . وهو قبلة الصلاة في الملتين ، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين . وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين . لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ،
[ ص: 3886 ] ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه . انتهى . ومن فضائله ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم صححه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687202« إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا ، فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة » .
سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه .
وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه .
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - يعني
ببيت المقدس - خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك » .
وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه ؛ تجريدا لقصد الصلاة .
وقال
الشيرازي في (" عرائس البيان ") : كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى ؛ لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم . وهناك بقربه
طور سينا ،
وطور زيتا ،
ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال ، مواضع كشوف الحق ، لذلك قال :
باركنا حوله انتهى .
والالتفات في : { باركنا } لتعظيم ما ذكر ؛ لأن فعل العظيم يكون عظيما ، لا سيما إذا عبر عنه بصيغة التعظيم . والنكتة العامة تنشيط السامعين .
[ ص: 3887 ] وقوله تعالى :
لنريه من آياتنا إشارة إلى
حكمة الإسراء . أي : لكي نري
محمدا صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل ، مسيرة شهر ، ومشاهدة
بيت المقدس ، وتمثل الأنبياء له ، ووقوفه على مقاماتهم العلية .
قيل : أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية ؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية ؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان . وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات ؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو . فشاء عز وجل أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة ؛ إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين ، كذا يستفاد من " التأويلات "
لأبي منصور .
وما أحسن ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق : كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص ، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه . فيه عبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن بالله وصدق . وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين . فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد . حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد . انتهى .
وقوله تعالى :
إنه هو السميع البصير أي : السميع لأقوال عباده وأفعالهم ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
تنبيهات :
الأول : دلت هذه الآية على
ثبوت الإسراء ، وهو سير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلا . وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه .
[ ص: 3888 ] ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم . والكلام عليه ثمة .
الثانية : ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل هجرته بسنة . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري وابن سعد وغيرهما . وبه جزم
النووي ، وبالغ
ابن حزم فنقل الإجماع فيه . وقال : كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة .
وفي " إنسان العيون " : أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة . وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الأول ، وقيل : ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان ، وقيل : سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر ، وقيل : من رجب . واختار هذا الأخير
nindex.php?page=showalam&ids=16389الحافظ عبد الغني المقدسي ، قال : وعليه عمل الناس . والله أعلم .
الثالث : في (" زاد المعاد ")
لابن القيم : كان الإسراء مرة واحدة . وقيل : مرتين : مرة يقظة ومرة مناما . وأرباب هذه القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله « ثم استيقظت » وبين سائر الروايات . ومنهم من قال : بل كان هذا مرتين : مرة قبل الوحي ؛ لقوله في حديث
شريك ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث . ومنهم من قال : بل ثلاث مرات : مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده . وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل ، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات ، جعلوه مرة أخرى . فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع . والصواب الذي عليه أئمة النقل ؛ أن الإسراء كان مرة واحدة
بمكة بعد البعثة . ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا ! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين
موسى حتى تصير خمسا ، ثم يقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى الخمسين ثم يحطها عشرا عشرا ؟ ! .
الرابع : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض ، عليه الرحمة ، في (" الشفا ") : اختلف السلف والعلماء
هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات : فذهبت طائفة على أنه إسراء بالروح ، وأنه رؤيا منام ، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي . وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية ، وحكي عن
[ ص: 3889 ] nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ( والمشهور عنه خلافه ) وإليه أشار
nindex.php?page=showalam&ids=12563محمد بن إسحاق . وحجتهم قوله تعالى :
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك وما حكوا عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله
« بينا أنا نائم » ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس : ( وهو نائم في
المسجد الحرام ) وذكر القصة ، ثم قال في آخرها : ( فاستيقظ وأنا
بالمسجد الحرام ) .
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة . وهذا هو الحق ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس nindex.php?page=showalam&ids=21وحذيفة nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدري nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=15990وابن المسيب وابن شهاب وابن زيد nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=17073ومسروق nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج . وهو دليل قول
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة . وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين . وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين .
وقالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى
بيت المقدس . وإلى السماء بالروح ، واحتجوا بقوله :
سبحان الذي أسرى بعبده فجعل
المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبي وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه . قال هؤلاء : ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على
المسجد الأقصى لذكره ، فيكون أبلغ في المدح .
ثم اختلفت هاتان الفرقتان : هل صلى
ببيت المقدس أم لا ؟ ففي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس وغيره صلاته فيه . وأنكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة وقال : والله ! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : والحق في هذا والصحيح ، إن شاء الله ، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها . وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار . ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل ، إلا عند الاستحالة ، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة ؛ إذ لو كان مناما لقال : ( بروح عبده ) ولم يقل ( بعبده ) وقوله :
ما زاغ البصر وما طغى ولو كان
[ ص: 3890 ] مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به ؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر . بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته ، إلى ما ذكر في الحديث ، من ذكر صلاته بالأنبياء
ببيت المقدس في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس ( أو في السماء ) على ما روى غيره ، وذكر مجيء
جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال : ومن معك ؟ فيقول :
محمد . ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع
موسى في ذلك .
وفي بعض هذه الأخبار :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650336« فأخذ ، يعني جبريل ، بيدي ، فعرج بي إلى السماء » إلى قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650336« ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام » ، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى ، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ، لا رؤيا منام .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن فيه :
« بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت ، فجلست فلم أر شيئا ، فعدت لمضجعي » . ذكر ذلك ثلاثا ، فقال في الثالثة :
« فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد ، فإذا بدابة » ، وذكر خبر البراق .
وعن
أم هانئ :
ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة . صلى العشاء الآخرة ونام بيننا . فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا قال : يا أم هانئ ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة ، كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون . وهذا بين في أنه بجسمه .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ( من رواية
شداد بن أوس عنه ) أنه
قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به : طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك . فأجابه : أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة » ، وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة ، فتحمل على ظاهرها .
[ ص: 3891 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650336« فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي » .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=657243« أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم » . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=657259« لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء لم أثبتها ، فكربت كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه » . ونحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر .
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
« ثم رجعت إلى nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة وما تحولت عن جانبها » .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض (" في إبطال حجج من قال : إنها نوم ") : احتجوا بقوله :
وما جعلنا الرؤيا فسماها ) رؤيا ) . قلنا : قوله :
سبحان الذي أسرى بعبده يرده ؛ لأنه لا يقال في النوم ( أسرى ) .
وقوله :
فتنة للناس يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص ؛ إذ ليس في الحلم فتنة ، ولا يكذب به أحد ؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة . على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية . فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك . وقيل غير هذا .
وأما قولهم : إنه قد سماها في الحديث مناما ، وقوله في حديث آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652968« بين النائم واليقظان » . وقوله أيضا : وهو نائم . وقوله :
« ثم استيقظت » ، فلا حجة فيه ؛ إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم . أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم . وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه :
« ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام » فلعل قوله « استيقظت » بمعنى أصبحت . أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته . ويدل عليه : أن مسراه لم يكن طول ليلة ، وإنما كان في بعضه . وقد يكون قوله :
« استيقظت وأنا في المسجد الحرام » لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض ، وخامر بطنه من
[ ص: 3892 ] مشاهدة الملأ الأعلى ، وما رأى من آيات ربه الكبرى . فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو
بالمسجد الحرام . ووجه ثالث : أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه ، ولكنه أسري بجسده وقلبه حاضر ، ورؤيا الأنبياء حق . تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم .
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا . قال : تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله ، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء ، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات .
ووجه رابع : وهو أن يعبر بالنوم ها هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع . ويقويه قوله في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
همام : « بينا أنا نائم » ، وربما قال « مضطجع » ، وفي رواية
هدبة عنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=698010« بينا أنا في الحطيم » ، وربما قال
« في الحجر مضطجع » . وقوله في الرواية الأخرى :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652968« بين النائم واليقظان » فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا . وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم ، وذكر شق البطن ، ودنو الرب ، الواقعة في هذا الحديث ، إنما هي من رواية
شريك عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس . فهي منكرة من روايته . انتهى كلام
عياض . وبقيت له بقية من شاء فليراجعها .
الخامس : جملة الأقوال في الإسراء والمعراج ، على ما حكاه
ابن القيم في (" زاد المعاد ") ستة : بروحه وجسده وهو الذي صححوه ، وقيل : كان ذلك مناما ، وقيل : بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما ، وقيل : كان الإسراء إلى
بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما ، وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ومرة مناما . وقيل : بل أسري به ثلاث مرات . وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق . وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، فقيل : هو غلط ، وقيل : الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة . والمراد : قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء ، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام ، وقد قدمنا أن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ، نقل الأكثرون عنهم ؛ أنها رؤيا منام . وكذا حكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة ،
[ ص: 3893 ] إلا أن
ابن القيم نبه على دقيقة غريبة . قال رحمه الله : نقل
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية أنهما قالا : إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده . ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري نحو ذلك . ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناما ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده . وبينهما فرق عظيم .
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية لم يقولا كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده . وفرق بين الأمرين . فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة . فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء ، أو ذهب به إلى
مكة وأقطار الأرض ، وروحه لم تصعد ولم تذهب . وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال . والذين قالوا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان : طائفة قالت : عرج بروحه وبدنه . وطائفة قالت : عرج بروحه ولم يفقد بدنه . وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما . وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة . وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فتقف بين يدي الله عز وجل . فيأمر فيها بما يشاء ، ثم تنزل إلى الأرض . فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة . ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم . لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حي لا يتألم ؛ كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة . ومن سواه صلى الله عليه وسلم ، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة . فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان . وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت . وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء . ومع هذا فلها إشراف على البدن ، وإشراق وتعلق به . بحيث يرد السلام على من سلم عليه . وبهذا التعلق رأى
موسى قائما يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . ومعلوم أنه لم يعرج
بموسى من قبره ثم رد إليه ، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها . فرآه يصلي في قبره ، ورآه في السماء السادسة . كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك ،
[ ص: 3894 ] وبدنه في ضريحه غير مفقود . وإذا سلم عليه المسلم ، رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، ولم يفارق الملأ الأعلى . ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا ؛ فلينظر إلى الشمس في علو محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض ، وحياة النبات والحيوان بها . هذا ، وشأن الروح فوق هذا . فلها شأن وللأبدان شأن . وهذه النار تكون في محلها ، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها . مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم . فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف .
فقل للعيون الرمد إياك أن تري سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
انتهى كلام
ابن القيم .
وقال
العلامة سعدي في (" حواشي
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي ") : والمعراج بروحه في اليقظة - وهو الذي أشار إليه
ابن القيم - خارق أيضا للعادة . انتهى .
وتعقب
العلامة القنوي له : بأنه نوع مراقبة وانسلاخ ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط ؛ لأنه فوقه بكثير . بل غيره كما تبين قبل . وبالجملة ، فالذي فهمه الأكثرون من قول
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية nindex.php?page=showalam&ids=21وحذيفة nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن ؛ أن ذلك رؤيا منام . وما ذكره
ابن القيم من أنه إسراء بالروح ؛ فيحتمله اللفظ المأثور عنهم .
ونظيره قول بعضهم : إن ذلك كان أمرا إعجازيا . والحقيقة أنه كشف روحاني . وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم ؛ أن خالق العالم قادر على كل الممكنات . وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده صلى الله عليه وسلم ممكن . فوجب كونه تعالى قادرا عليه . وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة . والمعجزات كلها كذلك . وفي (" العقائد النسفية وحواشيها ") : الخرق والالتئام على السماوات جائز ؛ لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة ، فيصح على كل ما يصح على الآخر . فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام . وكذا الأجسام الفلكية . والله تعالى قادر على الممكنات كلها . فيكون قادرا على الخرق في السماوات ؛ لأنه ممكن فيها . وفي الرازي براهين أخر . فانظرها .
[ ص: 3895 ] جاء في كتاب (" إظهار الحق ") : أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج ، فبكت بأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك صرحت به التوراة الموجودة لديهم في ( أخنوخ ) . وأنه نقل حيا إلى السماء لئلا يرى الموت . كما في الفصل الخامس من سفر التكوين . وصرحت في صعود ( إيليا ) في الفصل الثاني من سفر الملوك . وفي إنجيل
مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع
المسيح عليه السلام إلى السماء . انتهى .
أقول : أخنوخ : هو
إدريس عليه السلام ، المنوه به في قوله تعالى :
ورفعناه مكانا عليا وإيليا : نبي أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة ، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة . وتسمى الآن : سبسطية : من قسم الأرض المقدسة ، زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة . وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه ، إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء ، جانب
نهر الأردن في بطاح
أريحا ، شاهده خليفته اليشاع النبي بعده . كذا في تاريخ الكتاب المقدس . و ( إيليا ) : هو إلياس ، و ( اليشاع ) : هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد .
وقد نوه بالأول في سورة الصافات بقوله تعالى : {
وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين } .
السادس : قيل : إن
المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا بشهادة التاريخ . وذلك لأن
سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة . ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود . وبقي كذلك حتى فتح
nindex.php?page=showalam&ids=2أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
القدس . انظر ( تاريخ أبي الفداء ) وغيره . فكيف أطلق عليه اسم المسجد ؟ وأجيب : بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجدا ، باعتبار ما كان عليه وما وضع له ، كما أطلق المسجد على حرم
مكة ، وهو لم يكن يومئذ مسجدا . وإنما كان بيتا للأصنام .
[ ص: 3896 ] لكن
إبراهيم وإسماعيل ، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة ، كما بنى
سليمان هيكله هذا لها ، سمي مسجدا بهذا الاعتبار . أو يقال : إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما . وهو كونهما مسجدين للمسلمين .
السابع : في
التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء . سئل الإمام
تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه ، عن رجل قال : ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر ، وقال آخر : بل ليلة القدر أفضل ، فأيهما المصيب ؟ .
فأجاب : أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر . إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه سلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر ، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر . فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين ، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام . هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها . فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها ؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به ، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة ، التي يظن أنها ليلة الإسراء ، بقيام ولا غيره . بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=651768« من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي الصحيحين عنه :
[ ص: 3897 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=704002« تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان » . وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن .
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها ، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة ، فهذا صحيح . وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان ، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة . هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر ، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه . والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي . ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم .
ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها . لا سيما على ليلة القدر . ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها . ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت . وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية . بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي ، وكان يتحراه قبل النبوة ، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة . ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها . ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء . ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله ، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات . كيوم الميلاد ، ويوم التعميد ، وغير ذلك من أحواله . وقد رأى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكانا يصلون فيه . فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وقد قال بعض الناس : إن ليلة الإسراء في حق النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر . وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء . فهذه
[ ص: 3898 ] الليلة في حق الأمة أفضل لهم . وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له . انتهى . نقله الشمس
ابن القيم (" في زاد المعاد ") .
الثامن : قال
الشمس ابن القيم في (" زاد المعاد ") : اختلف الصحابة :
هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه رأى ربه . وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . وصح عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود إنكار ذلك وقالا : إن قوله تعالى :
ولقد رآه نـزلة أخرى عند سدرة المنتهى إنما هو
جبريل . وصح
nindex.php?page=hadith&LINKID=657269عن nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : « نور ، أنى أراه ؟ ! » . أي : حال بيني وبين رؤية النور . كما قال في لفظ آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=657270« رأيت نورا » . وقد حكى
nindex.php?page=showalam&ids=14274عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره . قال
شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه : وليس قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا . ولا قوله رآه بفؤاده . وقد صح عنه أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=683294« رأيت ربي تبارك وتعالى » . ولكن لم يكن هذا في الإسراء ، ولكن كان في
المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح . ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه . وعلى هذا بنى
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله وقال : نعم ، رآه حقا . فإن
رؤيا الأنبياء حق ولا بد . ولكن لم يقل
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : إنه رآه بعيني رأسه . ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه . ولكن قال مرة : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده . فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة . من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه . وهذه نصوص
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد موجودة ليس فيها ذلك . وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين . فإن كان استناده إلى قوله تعالى :
ما كذب الفؤاد ما رأى ثم قال :
ولقد رآه نـزلة أخرى والظاهر أنه مستنده ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي
جبريل . رآه مرتين في صورته التي خلق عليها . وقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا . هو مستند
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في قوله : رآه بفؤاده . والله أعلم .
[ ص: 3899 ] التاسع : قال الحافظ
أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه " التنوير في مولد السراج المنير " بعد ذكره حديث الإسراء من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=1584وأبي ذر ومالك بن صعصعة nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=44وأبي سعيد nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=75وشداد بن أوس nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين
nindex.php?page=showalam&ids=13وعبد الله بن عمرو nindex.php?page=showalam&ids=36وجابر nindex.php?page=showalam&ids=21وحذيفة وبريدة
وأبي أيوب nindex.php?page=showalam&ids=481وأبي أمامة nindex.php?page=showalam&ids=24وسمرة بن جندب وأبي الحمراء nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب الرومي nindex.php?page=showalam&ids=94وأم هانئ nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=64وأسماء ابنتي
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره ، على ما وقع في المسانيد . وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ؛ ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون . وأعرض عنه الزنادقة والملحدون . انتهى .
وقد نقل
الرازي عن بعض
المعتزلة رده لجمل فيه - ساقها - صعب عليهم دركها . ولا إشكال فيها في الحقيقة بحمده تعالى . ولكن هم وأمثالهم ممن ضعفت عنايتهم بفن الحديث وغلب عليهم فن المعقول . ولقد فاتهم بسبب ذلك خير كثير . وليس في الأحاديث الصحيحة ما يناقض المفعول أو الواقع ، بوجه ما ، يعلم ذلك الراسخون . وفوق كل ذي علم عليم .
وقد بقي ممن رواه من الصحابة . غير من تقدم ؛
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة nindex.php?page=showalam&ids=4وأبو الدرداء nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمر . وأما من رواه من التابعين مرسلا فكثير ، منهم :
الحسن بن الحسين عليهما السلام
nindex.php?page=showalam&ids=16850وكعب nindex.php?page=showalam&ids=12691ومحمد بن الحنفية nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان الثوري nindex.php?page=showalam&ids=15500والوليد بن مسلم nindex.php?page=showalam&ids=16330وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون . كما يعلم من مراجعة (الدر المنثور)
للحافظ السيوطي .
وأما طرقه في الصحيحين . فقال
الحافظ ابن حجر في (" الفتح ") : إنها تدور على
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه . فرواه
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة عنه عن
مالك بن صعصعة . وليس في أحاديث المعراج أصح منه . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عنه عن
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16100شريك بن أبي نمر nindex.php?page=showalam&ids=15603وثابت البناني عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة . وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر . وقوله تعالى :
[ ص: 3900 ]