[ ص: 4204 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[96]
قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [97]
قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .
قال بصرت بما لم يبصروا به أي: فطنت لما لم يفطنوا له:
فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها أي: في الحلي المذاب حتى حي:
وكذلك سولت لي نفسي أي: حسنته وزينته:
قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك أي: لعذابك:
موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا أي: لنطيرنه رمادا في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن
هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أولا بقوله:
إنما فتنتم به ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله:
وإن ربكم الرحمن ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:
فاتبعوني ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله:
وأطيعوا أمري وهذا هو الترتيب الجيد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده
الرازي .
وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات،
هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة
[ ص: 4205 ] من أنه هو
السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا.
الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى:
فقبضت قبضة من أثر الرسول هو
جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن
السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه
بموسى إلى الطور.
واختلفوا أيضا في: أن
السامري كيف اختص برؤية
جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال
أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول
موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن
موسى عليه السلام لما أقبل على
السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال:
بصرت بما لم يبصروا به أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئا من سنتك ودينك." فقذفته " ، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه
موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟.
وأما دعاؤه
موسى عليه السلام رسولا، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله:
وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.
[ ص: 4206 ] قال الرازي: ما ذكره
أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه:
أحدها: أن
جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة
جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول، والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن
جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن
السامري، إن عرف
جبريل حال كمال عقله، عرف قطعا أن
موسى عليه السلام نبي صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون
جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.
التنبيه الثالث: في قوله:
لا مساس وجوه:
أحدها: إني لا أمس ولا أمس.
وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد، عقوبة له.
ثالثها: ما ذكره
أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما (أريد مسي النساء)، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله:
المال والبنون زينة الحياة الدنيا أي: لأن المس يكنى به عن النكاح كما في آية:
من قبل أن تمسوهن والله أعلم.
[ ص: 4207 ] ولما فرغ
موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه
السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: