ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ، ليبين له سنته فيهم . وذلك بعد أن قال :
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود إلى آخر الآيات ثم قال :
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلخ ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم . ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه : إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه ، ولأبشر المؤمنين بالنعيم . وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ، ليحولوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار ، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله ، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك . وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها ، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة - هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم . وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات ، قد ابتلي به الأنبياء السابقون . فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف ، ويضادون أمانيه ، ويحولون بينه وبين ما يبتغي ، بما يلقون في سبيله من العثرات . فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا ، يجب أن تفسر الآية . وذلك يكون على وجهين :
[ ص: 4366 ] الأول : أن يكون (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) و(الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) وهو معنى قد يصح . وقد ورد استعمال اللفظ فيه ; قال
nindex.php?page=showalam&ids=144حسان بن ثابت في
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان رضي الله عنهما :
تمنى كتاب الله أول ليله * * وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر :
تمنى كتاب الله أول ليله * * تمني داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه ، بل على المعنى المفهوم من قولك : (ألقيت في حديث فلان ) ، إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ، ولا يكون قد أراده . أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه . وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء الريبة ، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، مفسد القلوب بدسائسه ، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه . ويكون المعنى : وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدث قومه عن ربه ، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم ، قام في وجهه مشاغبون ، يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه . ويتقولون عليه ما لم يقله ، وينشرون ذلك بين الناس ، ليبعدوهم عنه ، ويعدلوا بهم عن سبيله ، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل . وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذبوا وأوذوا ، ويجاهدون في الحق ، ولا يعتدون بتعجيز المعجزين ، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة ، وينتصر على الباطل بالمجالدة . فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها ، ويثبت آياته ويقررها . وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب ، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ضعفاء العقول ، بتلك الشبه والوساوس ، فينطلقون وراءها . ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة ، فيتخذونها سندا يعتمدون عليها في جدلهم . ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم ، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه ، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به ، فتخبت وتطمئن له قلوبهم . والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي
[ ص: 4367 ] يستقر بالعقل في قرارة اليقين . وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم ، وتطير به مع الوهم ، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين . وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق ) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهي أو إلى القرآن ، وهو أجلها ، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين . هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا . وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم . ولم يجعل للوهم عليها سلطانا ، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم . وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب ، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع ، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب . لا تستقر عقولهم عليه ، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه . حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقوا حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب ، القتل أو الأسر . ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة ، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة . وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته . ما أقرب هذه الآيات في مغازيها ، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران :
هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب وقد قال بعد ذلك :
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ثم قال :
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إلخ الآيات .
[ ص: 4368 ] وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى . فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم ، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم . فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم . وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل ، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي الشيطان ، ويصرفهم عن مرامي البيان ، ويميل بهم عن محجة الفرقان . وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد ، لن يغني عنهم من الله شيئا . فستوافيهم آجالهم ، وتستقبلهم أعمالهم . فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم . فسيغلبون في هراشهم . وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم ، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه ، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه . وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران ، لا مدخل لها في آيات سورة الحج ، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات :
وما أرسلنا إلى آخرها ، على تقدير أن (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) وأن (الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) والله أعلم .
الوجه الثاني : في تفسير الآيات : أن التمني على معناه المعروف . وكذلك الأمنية . وهي أفعولة بمعنى المنية . وجمعها : أماني كما هو مشهور . قال
أبو العباس أحمد بن يحيى : التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون . قال : والتمني سؤال الرب . وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=974724« إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه » وفي رواية : (فليكثر ) . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12569ابن الأثير : (التمني ) تشهي حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر : تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إلي . وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه ، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية . ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قوما إلى هدي جديد ، أو شرع سابق شرعه لهم ، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا ; أو جاء به غيره إن كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه ، إلا وله أمنية في قومه . وهي أن يتبعوه
[ ص: 4369 ] وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه ، ويستشفوا من دائهم بدوائه ، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه . وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته . وتصديقهم برسالته ، منه على طعامه الذي يطعم ، وشرابه الذي يشرب ، وسكنه الذي يسكن إليه . ويغدو عنه ويروح علينا . وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى ، والمكان الأسمى . قال الله تعالى :
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا وقال :
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال :
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وفي الآيات ما يطول سرده ، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه ، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه ، إلى نور ما جاء به . وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان في سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات . ووسوس في صدور الناس . وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس ، فثاروا في وجهه ، وصدوه عن قصده ، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه ، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه . فإذا ظهروا عليه ، والدعوة في بدايتها ،
وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ، ظنوا الحق من جانبهم ، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه ، فتنة لهم .
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم ، أو من المستضعفين فيهم ، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان . وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله . ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله ، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله . أنصار الباطل في كل زمان ، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف . والزهو بكثرة المعـــــارف .
[ ص: 4370 ] وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم ، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم . فإذا دعا إلى الحق داع ، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن ، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله ، بخلوصها من هذه الشواغل . وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته ، قام أولئك المغرورون يقولون :
ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فإذا استدرجهم الله على سنته ، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا ، افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم ، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم . ولكن الله غالب على أمره . فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها ، وينشئ من ضعف أنصارها قوة ، ويخلف لهم من ذلتهم عزة ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى :
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين ، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه ، ووعد له بأنه سيكمل له دينه ، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته ، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم : {
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ،
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب
هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية . يدل عليه ما سبق من الآيات ، ويرشد إلى سياق
[ ص: 4371 ] القصص السابق في قوله :
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح إلخ . وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح .
وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو بالبعيد عن هذا بكثير قال : (بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم ، وطمعهم في إيمانهم ، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني ) :
ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى :
ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة ، الموجبة لكفره . وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس ، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب ، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة ، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى ) : أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح ، فهذه أمنية كل رسول ونبي . وإلقاء الشيطان فيها ، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم ، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم ، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة ، ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به . فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولا في قلوب الفريقين معا ، غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على الكافرين . انتهى .
وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه ، تتبين الأحق بالترجيح . ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه ، كما قاله القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي وغيره . ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ . يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ، ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة . وما يقال في المخرج عن ذلك ، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم . ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم . إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند
[ ص: 4372 ] ولا معروف بطريق صحيح . وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق . وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت . ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض . أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسموأل وفردوس وقرطاس وعلابط ) معناه : الشاب الأبيض الجميل . وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة : (الغرنوق ) ، كما يسمى به ضرب من الشجر . ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات . ويقال : (لمة غرانقة ) و(غرانقية ) : أي : ناعمة تفيئها الريح . أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ . ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام ، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام . فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين ، ممن لا يميز بين حر الكلام ، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام . فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية ، عما تقتضيه الدراية :
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب انتهى كلام الأستاذ رحمه الله .
وممن جزم بوضع هذه القصة جزما باتا ، الإمام ابن حزم رحمه الله ، حيث قال في كتابه " الملل " في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله : استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في :
والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم : وإنها لهي (الغرانيق ) العلى وإن شفاعتها لترتجى ، ثم قال بعد : وأما الحديث الذي فيه الغرانيق فكذب بحت موضوع . لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد . وأما قوله تعالى :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية ، فلا حجة لهم فيها . لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها . وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه
أبي طالب ،
[ ص: 4373 ] ولم يرد الله عز وجل كون ذلك . فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها ، وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية . وبالله تعالى التوفيق .
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق . انتهى ، وقوله تعالى :