القول في تأويل قوله تعالى :
[4 - 5]
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .
والذين يرمون أي : يقذفون بالزنى :
المحصنات أي : المسلمات الحرائر العاقلات
[ ص: 4449 ] البالغات العفيفات عن الزنى :
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أي : يشهدون على ما رموهن به :
فاجلدوهم ثمانين جلدة أي : كل واحد من الرامين . وتخصيص النساء لخصوص الواقعة ، ولأن قذفهن أغلب وأشنع . وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى :
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أي : في أي : واقعة كانت ، لظهور كذبهم :
وأولئك هم الفاسقون أي : لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات :
إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي : القذف :
وأصلحوا أي : أعمالهم :
فإن الله غفور رحيم أي : بقبول توبتهم وعفوه عنهم .
تنبيهات :
الأول : قال
ابن تيمية : ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم (منا ) ولا (ممن نرضى ) ولا (من ذوي العدل ) ولهذا تنازعوا :
هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق ؟ هل تدرأ الحد عن القاذف ؟ على قولين : أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعا . فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة . ولو لم تشهد المرأة ، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ، أو يخلى سبيلها ؟ فيه نزاع . فلا يلزم من درء الحد عن القاذف ، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد . والحدود تدرأ بالشبهات . وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية ، ولو
اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثا درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير محصن ، مثل أن يكون مشهورا بالفاحشة ، لم يحد قاذفه حد القذف . ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة . وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد .
ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين . لكن يقال لم يقيدهم بالعدالة ، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله :
كونوا قوامين بالقسط وقوله :
وإذا قلتم فاعدلوا [ ص: 4450 ] ولو كان ذا قربى وقوله :
ولا تكتموا الشهادة وقوله :
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وقوله :
والذين هم بشهاداتهم قائمون فهم يقومون بها بالقسط لله ، فيحصل مقصود الذي استشهدوه .
والوجه الثاني : كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا . فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء . وقد نهى الله سبحانه عن قبول
شهادة الفاسق بقوله :
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره . وأما الفاسقان فصاعدا . فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى ، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع . وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك .
ونحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة . ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد ، لا في آية الزنى ، ولا في آية القذف . بل قال :
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد ، ولم يأمر به عند خبر الفاسقين . فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد . ولهذا قال العلماء : إذا استراب الحاكم في الشهود ، فرقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم . انتهى .
الثاني : قال
الحافظ ابن حجر في (" الفتح " ) : ذهب الجمهور إلى أن
شهادة القذف بعد التوبة تقبل . ويزول عنه اسم الفسق . سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله ، لقوله تعالى :
إلا الذين تابوا روى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في هذه الآية : فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل . وتأولوا قوله تعالى :
أبدا على أن المراد ما دام مصرا على قذفه . لأن (أبد كل شيء ) على ما يليق به . كما لو قيل : لا تقبل
شهادة الكافر أبدا ، فإن المراد ما دام مصرا على الكفر . وبالغ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي فقال : إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه ، سقط عنه . وذهبت الحنفية إلى
[ ص: 4451 ] أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة . فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق ، وأما شهادته فلا تقبل أبدا . وقال بذلك بعض التابعين . انتهى .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها ، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط . كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم ، وردوا شهادتهم وفسقوهم . أي : فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا ، فإن الله يغفر لهم ، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين . انتهى .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه في (كتاب الشهادات ) في باب شهادة القاذف والسارق والزاني ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه ; أنه جلد
nindex.php?page=showalam&ids=130أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا ، بقذف
nindex.php?page=showalam&ids=19المغيرة بالزنى ، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة . ولم يبت
زياد الشهادة . ثم استتابهم وقال : من تاب قبلت شهادته . وفي رواية قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل . ومن لم يفعل ، لم أجز شهادته . فأكذب
شبل نفسه
nindex.php?page=showalam&ids=17192ونافع . وأبى
nindex.php?page=showalam&ids=130أبو بكرة أن يرجع .
قال
المهلب : يستنبط من هذا ; أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته . لأن
nindex.php?page=showalam&ids=130أبا بكرة لم يكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها .
الثالث : قال الرازي : اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون ؟
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله : التوبة منه إكذابه نفسه ، واختلف أصحابه في معناه . فقال
الإصطخري : يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله . وقال
أبو إسحاق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله : (كذبت ) كذبا ، والكذب معصية ، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل . ندمت على ما قلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه .
الرابع : قال
الرازي في قوله تعالى :
وأصلحوا قال أصحابنا : إنه بعد التوبة ، لا بد من مضي مدة عليه في حسن الحل ، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته . ثم قدروا تلك المدة بسنة
[ ص: 4452 ] حتى تمر عليه الفصول الأربعة ، التي تتغير فيها الأحوال والطباع . كما يضرب للعنين أجل سنة . وقد علق الشرع أحكاما بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما . انتهى .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في (" الوجيز " ) يكفيه أن يقول : تبت ولا أعود . إلا إذا أقر على نفسه بالكذب ، فهو فاسق ، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول : تبت . فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته . انتهى .
وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه ، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته ، ولو على أثر الحد .
قال
الحافظ ابن حجر : روى
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور من طريق
حصين بن عبد الرحمن قال : رأيت رجلا جلد حدا في قذف بالزنى . فلما فرغ من ضربه أحدث توبة . فلقيت
أبا الزناد فقال لي : الأمر عندنا
بالمدينة ; إذا رجع القاذف عن قوله ، فاستغفر ربه ، قبلت شهادته وعلقه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
الخامس : ننقل هنا ما أجمله السيوطي في (" الإكليل " ) مما يتعلق بأحكام الآية . قال رحمه الله : في هذه الآية
تحريم القذف ، وأنه فسق ، وأن
القاذف لا تقبل شهادته ، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي : عفيفة . ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف . ويصرح بذلك قوله :
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وفيها أن
الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال ، لا أقل . ولا نساء . وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين . واستدل بعموم الآية من قال : يحد العبد أيضا ثمانين . ومن قال : يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده . واحتج بها على أن
من قذف نفسه ثم رجع لا يحد لنفسه . لأنه لم يرح أحدا واستدل بها من قال : إن حد القذف من حقوق الله ، فلا يجوز العفو عنه . انتهى .
ثم رأيت
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، تحقيقا في بحث قبول الشهادة بعد التوبة ، جديرا بأن يؤثر . قال رحمه الله : وقوله تعالى :
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبدا . واحدا كانوا أو عددا . بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل
[ ص: 4453 ] الجمع والبدل ، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير . وكان الذين قذفوا
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة عددا ، ولم يكونوا واحدا لما رأوها قدمت صحبة
صفوان بن المعطل ، بعد قفول العسكر ، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فقدت ، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ، ولم تكن فيه . فلما رجعت لم تجد أحدا فمكثت مكانها . وكان
صفوان قد تخلف وراء الجيش . فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها . ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة . كما يجوز
للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت
nindex.php?page=showalam&ids=11720أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة وقصة
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة .
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين . ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور . فإنه كان من جملتهم
nindex.php?page=showalam&ids=7927مسطح nindex.php?page=showalam&ids=144وحسان وحمنة . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد شهادة أحد منهم ، ولا المسلمون بعده لأنه كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها . ومن لم يتب حينئذ ، فإنه كافر مكذب بالقرآن . وهؤلاء ما زالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم . ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر شهادة
nindex.php?page=showalam&ids=130أبي بكرة . وقصة
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة أعظم من قصة
nindex.php?page=showalam&ids=19المغيرة . لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول : أرد شهادة من حد في القذف . وهؤلاء لم يحدوا . والأولون يجيبون بأجوبة : أحدها : أنه قد روي في السنن أنهم حدوا . الثاني : أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن ، وهم لا يقولون به . الثالث : أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا : قد يكون القاذف صادقا وقد يكون كاذبا . فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف . فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه . ومعلوم أن الذين قذفوا
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد . فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سماوات يتلى ، فإذا كانت شهادتهم مقبولة ، فغيرهم أولى . وقصة
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر التي حكم فيها بين
المهاجرين والأنصار ، في شأن
nindex.php?page=showalam&ids=19المغيرة ، دليل على الفصلين جميعا . لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما . والثالث ، هو
nindex.php?page=showalam&ids=130أبو بكرة ، مع كونه من أفضلهم ، لم يتب
[ ص: 4454 ] فلم يقبل المسلمون شهادته . وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : تب أقبل شهادتك . لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبدا ، ثم قال بعد ذلك :
وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فمعلوم أن قوله : { هم الفاسقون } وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة .
وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة . وإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته وكان من الصالحين ، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة ، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك ، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها . ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين .
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها ، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله ، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته ، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات ، وإما لالتفافهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات ، وليس الأمر كذلك في الشريعة . وبالجملة ، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة ، وهذا أمر عظيم . وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيا ، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله . والصدق في شهادته وخبره . وكثيرا ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات . كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيرا . لكن يقال : إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته :
nindex.php?page=hadith&LINKID=661729« عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي [ ص: 4455 ] إلى الجنة . . » الحديث . فالصدق مستلزم للبر ، كما أن الكذب مستلزم للفجور . فإذا وجد الملزوم ، وهو تحري الصدق ، وجد اللازم وهو البر . وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق . وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم . وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب ، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه . وبعدم فجوره على صدقه . فالعدل الذي ذكروه ; من انتفى فجوره . وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة . وإذا انتفى ذلك فيه ، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور . والفاسق هو من عدم بره ، وإذا عدم بره عدم صدقه . ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر ، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور . فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب . انتهى . ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجه خاصة ، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن ، بقوله سبحانه :