القول في تأويل قوله تعالى:
[75 - 81]
قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين .
[ ص: 4622 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي أي: أفأبصرتم، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه وسلفكم. فإنهم بغضائي:
إلا رب العالمين أي: لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه ولي في الدنيا والآخرة، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله:
الذي خلقني فهو يهدين أي: إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لم خلق له. والموصول صفة لـ(رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا - غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله
أبو السعود. والذي هو يطعمني ويسقين أي: يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا.
وإذا مرضت فهو يشفين أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال
الخضر: فأردت أن أعيبها وقال:
فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وكقول الجن في آية:
أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.
والذي يميتني ثم يحيين فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان، وقد أضافه تعالى إلى نفسه، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف): بأن الموت
[ ص: 4623 ] قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت; فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا. فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض، أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض، فلما يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا فقال:
وإذا مرضت وكان ممكنا أن يقول والذي يمرضني فيشفيني، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة، إلا لذلك. انتهى.
قال
أبو السعود: وأما الإماتة، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء، بدءا وإعادة، وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمها في سمط واحد في قوله تعالى:
والذي يميتني ثم يحيين على أن الموت، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام.