صفحة جزء
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية، والأدلة السمعية، دلت على امتناع الاتفاق في تفصيل الحكم، وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل [ ص: 786 ] المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا . خصوصا من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليه السلام . وهذه فائدة نفيسة جدا ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وقال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف [ ص: 787 ] العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به و تأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .

أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه ، وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة ، والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ . ومنهم من قال : القصص والأمثال . ومنهم من عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في ( الحاوي ) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه : ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو ، مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء . والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : سأنبئك بتأويل ما لم [ ص: 788 ] تستطع عليه صبرا صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :

أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل ، أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : ولا يحيطون به علما ولقوله تعالى : ليس كمثله شيء وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله - عز وجل - على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف [ ص: 789 ] لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء ، الجميع ، ومنهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ، ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعا إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم : أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا ؟ فغضب عليه السلام ونادى : ( الصلاة جامعة ) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته ، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم ، وهم من ملكوت القدس كلهم . ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته . فاتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه [ ص: 790 ] ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيد في ( الأمالي ) أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « ستكون فتنة » ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : « كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ،فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله » إلى قوله : « من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم » . ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - .

[ ص: 791 ] ورواه ابن الأثير في ( الجامع ) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه ، وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى ، وما يؤدي إليه .

الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه ، من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال [ ص: 792 ] الله : كف عن عبادي ، إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني - رواه الطبراني - .

وقال الإمام الغزالي في كتاب العلم في ( الإحياء ) في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش ، وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزا ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .

وقال في شرح ( أسماء الله الحسنى ) في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا . والغبي الذي يرى القصاص شرا محضا ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا .

وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في ( العواصم ) والسر في ذلك : أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة . وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى [ ص: 793 ] القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في ( العواصم ) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي ، وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزدت عليه . ومضمون كلامهم : أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معا . ونصر ذلك الغزالي في شرح ( الرحمن الرحيم ) . ولنورد في ذلك حديثا واحدا ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه ( الأسماء والصفات ) عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى .

ورواه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيرا سأل الله مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصر صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع [ ص: 794 ] أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه ، أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى ، وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه .

وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به . وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها والجواب الجملي عليهم كما مر .

وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في ( العواصم ) وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .

الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة ، والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروري ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك ، وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في ( الحاوي ) . وقولهم : [ ص: 795 ] إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها ؛ مقلوب .

وصوابه : أن لا نفهمها ، فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن .

الأمر الرابع من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك

وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد :

الأولى : الصحيح في قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في ( الحاوي ) واحتج بأن ( أما ( للتفصيل على بابها ، والتقدير : و ( أما الراسخون ( بدليل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عمرو فجاهل ، يوضحه أن المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .

[ ص: 796 ] وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : (ويقول الراسخون ( وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في كشافه قراءة عن أبي وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن علي عليه السلام ، ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في ( النهج ) أيضا ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه ؛ رسوخا . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه .

وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ؛ جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .

الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية ، وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، و تأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .

الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بين وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد - إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية