القول في تأويل قوله تعالى :
[ 50 ]
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ومصدقا حال معطوفة على قوله " بآية " أي : جئتكم بآية ومصدقا :
لما بين يدي من التوراة أي : مقررا لهما ومثبتا :
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : فيه دلالة على أن
عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين . ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى :
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه والله أعلم . انتهى .
أقول : من البعض الذي أحله
عيسى عليه السلام لهم : فعل الخير في السبوت ، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت ، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيليين مرة ، أبصر مريضا فسألوه : هل يحل أن يشفي في السبت ؟ فقال لهم عليه السلام : أي إنسان منكم يكون له خروف ، فيسقط في حفرة يوم السبت
[ ص: 848 ] ولا يمسكه ويرفعه ؟ والإنسان كم يفضل الخروف ؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت ، ثم أبرأ ذلك المريض - كذا في الإصحاح الثاني عشر ، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل
متى - وفيه في الإصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول
المسيح عليه السلام : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل - انتهى - .
وقد اتفقوا على أن
المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها ، ثم جاء
بولس ومن بعده من الرهبان ، فادعوا أن
المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم ، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه . وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه ، وأغناهم بشريعته الروحانية ، فنقضوا الناموس الذي جاء لإكماله
المسيح . فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسوي ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية ، وثبتت الإباحة العامة بفتوى
بولس ، إذ قال لهم : لا شيء نجس العين ، كما في رسالته إلى أهل رومية . ومما نقضوه تعظيم السبت ، فقد كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل ، وكان من عمل فيه عملا واجب القتل . ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة . ومنه حكم الختان الذي كان أبديا في شريعة
إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة
موسى ، وقد ختن
عيسى عليه السلام ، فنسخ حكمه الرهبان بعده ، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلا الزنى ، كما بين في ( إظهار الحق ) ، في الباب الثالث في إثبات النسخ ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى :
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فانظرها
وجئتكم بآية من ربكم كرره تأكيدا ، وليبنى عليه قوله :
فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 849 ]