إن الذين يبايعونك أي: على قتال قريش تحت الشجرة، وأن لا يفروا عند لقاء العدو، ولا يولوهم الأدبار إنما يبايعون الله أي: لأن عقد الميثاق مع رسول الله، كعقده مع الله، من غير تفاوت؛ لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى، ونواهيه، يد الله فوق أيديهم تأكيد لما قبله. أي: أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال القاشاني : أي: قدرته البارزة في يد الرسول، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم، فيضرهم عند النكث، وينفعهم عند الوفاء.
هذه البيعة هي بيعة الرضوان . وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين [ ص: 5402 ] بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: خمسمائة. والأول أصح -على ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير - وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها، لزم إيرادها مفصلة.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق : خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا. واستنفر العرب، ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير -رجل من قريش - مسلما، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر يعدو، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: « لقد رأى هذا زعرا ». فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله! صاحبي، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ص: 5409 ] « ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد ». فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فوالله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأنزل الله عز وجل: وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية.
وجرى الصلح بين المسلمين، وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك، حتى إذا كان العام المقبل، قدمها، وخلوا بينه وبين مكة ، فأقام بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابكم لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا: يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال: من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم، جعل الله له فرجا ومخرجا.
هذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في (زاد المعاد).