القول في تأويل قوله تعالى:
[13]
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى أي: من آدم وحواء، أو من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء. أي: من أب وأم، فما منكم أحد إلا هو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر، والتفاضل في النسب.
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا. ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم أي: أشدكم اتقاء له، وخشية بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا، ولا أكثركم عشيرة.
إن الله عليم خبير أي: بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم، وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية.
[ ص: 5468 ] تنبيهات:
الأول:- حكى
nindex.php?page=showalam&ids=13967الثعالبي في (فقه اللغة) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن
ابن الكلبي عن أبيه: أن الشعب (بفتح الشين)، أكبر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العمارة، (بكسر العين)، ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العترة، ثم الأسرة. انتهى. وقال الشيخ
ابن بري: الصحيح في هذا ما رتبه
nindex.php?page=showalam&ids=14413الزبير بن بكار وهو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال
أبو أسامة : هذه الطبقات على ترتيب خلق الإنسان، فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة فقال:
أقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحواء ثم القبيله ثم يتلوها العمارة ثم الـ
بطن والفخذ بعدها والفصيله ثم من بعدها العشيرة لكن
هي في جنب ما ذكرنا قليله
فخزيمة شعب،
وكنانة قبيلة،
وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت (الشعوب)؛ لأن القبائل تشعبت منها. و(الشعوب): جمع شعب، بفتح الشين.
قال
أبو عبيد البكري في (شرح نوادر
أبي علي القالي ): كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح، وفي الجبل بالكسر، إلا بندارا فإنه رواه عن
أبي عبيدة بالعكس. نقله
الزبيدي في (تاج العروس).
الثاني:- في الآية الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وذم التفاخر بها، وأن التقي غير النسيب، يقدم على النسيب غير التقي، فيقدم الأروع في الإمامة على النسيب غيرهما.
[ ص: 5469 ] وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب قال: سألت
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا عن نكاح الموالي العربية فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية، فلم يشترط في الكفاءة الحرية -نقله في (الإكليل).
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير : استدل بالآية من ذهب إلى أن
الكفاءة في النكاح لا تشترط ، ولا يشترط سوى الدين.
الثالث:- أفاد قوله تعالى:
لتعارفوا حصر حكمة جعلهم شعوبا وقبائل فيه. أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب، والتوارث، لا للتفاخر بالآباء والقبائل.
قال
الشهاب : الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر، والسكوت في معرض البيان. وقال
القاشاني : معنى قوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا كرامة بالنسب، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى. والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر، فإنه من الرذائل. والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة، كان صاحبها أكرم عند الله، وأجل قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية، التي هي الذنوب، في عرف ظاهر الشرع، أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل، والبخل، والشره، والحرص، والجبن، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها. انتهى.
الرابع:- روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، منها ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=654321سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: « أكرمهم عند الله أتقاهم ». قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: « فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله ». قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: « فعن معادن العرب تسألوني؟ » قالوا: نعم. قال: « فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا » .
[ ص: 5470 ] وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=661659« إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .
وروى الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=940946إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود، إلا أن تفضله بتقوى الله » .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13863البزار في مسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=666260« كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان » .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=11970وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ؛
nindex.php?page=hadith&LINKID=665563أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : « أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر يتقى، هين على الله تعالى. إن الله عز وجل يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى الآية » . وبقيت أحاديث أخر ساقها
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير ، فانظرها.
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء قال: قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله وقال:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا. قال
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء : نسيت الثالثة.
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب، والإنكار على مساوئ أخلاقهم، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيه، ما كانوا فيها هم المقصود أولا وبالذات، ثم غيرهم ثانيا، وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان، ثم بيان من المؤمن حقا، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون، فقال سبحانه وتعالى:
[ ص: 5471 ]