القول في تأويل قوله تعالى:
[18]
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلمونا دينكم، وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض.
تنبيهات:
الأول:- روى الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=13863أبو بكر البزار عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال:
جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم » - ونزلت هذه الآية -.
وقال
ابن زيد : هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم
[ ص: 5477 ] في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيين أولها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة -والله أعلم.
الثاني:- في قوله تعالى:
بل الله يمن عليكم الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما
nindex.php?page=hadith&LINKID=653985قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : « يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي » ؟ - كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن.
وما ألطف قول
أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى: وبعث إليهم رسلا منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصرا، وأولهم يوم الدين ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجة وبرهانا، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية،
محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، الذي اتخذه صفيا وحبيبا، وأرسله إلى عباده بشيرا ونذيرا، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم.
أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئا. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيدا، وبالعنف لما وجد أنصارا وجنودا. لا يرى للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفاه، ولا حجة مموهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببنيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات،
[ ص: 5478 ] والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتواعدت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.
الثالث:- قال
الرازي : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق. وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجا عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضرا عندهم، أو غائبا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها:- يتعلق بجانب الله.
وثانيها:- بجانب الرسول.
وثالثها:- بجانب الفساق.
ورابعها:- بالمؤمن الحاضر.
وخامسها:- بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: يا أيها الذين آمنوا، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولا:
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيا:
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثا:
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبين ذلك عند تفسير قوله:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ ص: 5479 ] وقال رابعا:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم وقال:
ولا تنابزوا لبيان وجوب
ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم ، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسا:
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال:
ولا تجسسوا وقال:
ولا يغتب بعضكم بعضا لبيان وجوب الاحتراز عن
إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء بالله، ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم الفاسق؟.
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور. وأما المؤمن الحاضر، أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا؟ انتهى.