القول في تأويل قوله تعالى:
[ 6 - 8 ]
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته; وذكر "الكريم" للمبالغة في المنع عن الاغترار; لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال:
الذي خلقك فسواك أي: جعلك سويا متساوي الأعضاء والقوة. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء; فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به
فعدلك أي: جعلك معتدلا متناسب الخلق، معتدل القامة، لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزت بها على سائر الحيوان
في أي صورة ما شاء ركبك أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. فـ "أي" استفهامية، والمجرور متعلق بـ "ركبك"، و "ما" زائدة
[ ص: 6086 ] وجملة "شاء" صفة "صورة" والقصد أن ما خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لجدير بأن يتقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد ترهيب.
تنبيه:
قال
الإمام ابن القيم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب
الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية، على الأسباب ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته، ولا بد. ولكن تغالطه نفسه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه. قال: كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته. وهذا جهل قبيح، وإنما غره بربه الغرور، وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه; وأتى سبحانه بلفظ "الكريم" وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه; ووضع هذا المغتر (الغرور) في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.
وفي مثل هذا الغرور يجب -كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي- على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. و: إنه مع أنه كريم، خلد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها، فمن هذه سنته في عباده -وقد خوفني عقابه- فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهو تمنن وغرور،
[ ص: 6087 ] ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات، و
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون، فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟!
ثم قال: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، ولا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه، وإن كان مؤمنا بما فيه. وترى الناس يهذونه هذا: يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، وكأنهم يقرؤون شعرا من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه، وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.