[ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[34 ]
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لم يعلموا ، أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له ، واعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى
لآدم عليه السلام :
فسجدوا إلا إبليس أبى أي : امتنع عن السجود "واستكبر" أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة "وكان" في سابق علم الله أو صار "من الكافرين" .
تنبيهات :
الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم
لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادة
لآدم . وقيل : السجود لله ،
وآدم قبلة ، أو السجود
لآدم تحية ، أو السجود
لآدم عبادة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري عن
nindex.php?page=showalam&ids=14888الفراء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة
لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عبادة، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية ، لا سجود صلاة وعبادة . قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان
لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال :
اسجدوا لآدم ولم يقل : إلى
آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين "سجدت له" ، وبين "سجدت إليه" . قال تعالى :
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ولله يسجد [ ص: 102 ] من في السماوات والأرض أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما
الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى
بيت المقدس ، ثم صلى إلى
الكعبة ، ولا يقال صلى
لبيت المقدس ، ولا
للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه . وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره . فسجود الملائكة
لآدم عبادة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو
لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة
يوسف له تحية وسلام. ولم يأت أن
آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت
المعتزلة : كان
آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ; فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة
لآدم . وخالفت
المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة
لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس :
قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا
الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال
تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى
جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال
ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان ،
[ ص: 103 ] لأنه سبحانه قال :
فسجد الملائكة كلهم أجمعون وهذا تأكيد للعموم .
الثالث : للعلماء في
إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان : أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ
موفق الدين ، والشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير الطبري . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13890البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود
لآدم . قال تعالى :
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فلولا أنه من الملائكة ، لما توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا ، ولما استحق الخزي والنكال .
والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، في رواية ،
nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ،
nindex.php?page=showalam&ids=14803وأبو البقاء العكبري ،
والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى :
إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فهو أصل الجن ، كما أن
آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .
قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود
لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع . والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13890البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى :
إلا إبليس كان من الجن أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .
[ ص: 104 ] قال
ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله ; كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال
شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوى المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار . سموا "جنا" ; لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . الدليل على ذلك قوله تعالى :
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.
سئل
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي :
هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .
الرابع : في قوله تعالى :
وكان من الكافرين قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا ، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : "وكان من الكافرين" في علم الله ، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس
بأي سبب كفر إبليس ، لعنه الله . فقالت
الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود
لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ،
[ ص: 105 ] واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ :
أنا خير منه كما يأتي . فكأنه ترك السجود
لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=657139« لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» كذا في كتاب الاستعاذة للإمام
ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى .