صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 - 8 ] فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب

وقوله تعالى: فإن مع العسر يسرا إشارة إلى أن الذي منحه -صلوات الله عليه- من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسرا; ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. (وال) في "العسر" للاستغراق ولكنه استغرق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدو، وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل على ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى; فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو الوحي والنبوة، ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئا من عزمه، بل ما زال يلتمس [ ص: 6192 ] الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصارا طوالا. أفاده الإمام رحمه الله.

لطيفة:

تنكير "يسرا" للتعظيم، والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة "مع" إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر; فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ "مع" لمعنى: بعد.

وقوله تعالى: إن مع العسر يسرا تكرير للتأكيد، أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة، وعليه أثر: « لن يغلب عسر يسرين » فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهودا أو جنسا، وأما المنكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول.

فإذا فرغت أي: من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب أي: خذ في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل، قاله الإمام.

"وإلى ربك فارغب" أي: في الدعوة إليه، أي: لا ترغب إلا إلى ذاته، دون ثواب أو غرض آخر، لتكون دعوتك وهدايتك إليه، قاله القاشاني.

وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه; إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد. والأظهر عندي -اعتمادا على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل- أن يكون معنى قوله تعالى: [ ص: 6193 ] فإذا فرغت فانصب أي: فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكرا لله على ما أنعم، وارغب إليه خاصة ابتغاء لمرضاته; فتكون الآيتان بمعنى سورة: إذا جاء نصر الله والفتح ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه، إلا أن السياق والنظائر -وهو أهم ما يرجع إليه- يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية