القول في تأويل قوله تعالى:
[ 4 - 5 ]
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة أي: على ألسنة
[ ص: 6227 ] أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم بتفرقهم فيها وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها، فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى منهم؟ وقوله تعالى:
وما أمروا أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين أي: الإذعان والخضوع، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء، لا واسطة ولا مال، ولا كرامة ولا جاه "حنفاء" أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله. وأصله جمع (حنيف) بمعنى المائل المنحرف; سمي به
إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة
ويقيموا الصلاة أي: الإتيان بها، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع، لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة; فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة
ويؤتوا الزكاة أي: بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى.
وذلك دين القيمة أي: الكتب القيمة، أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: أن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم
الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة، هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدين وأن صرنا فيه شيعا، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن "من" في قوله "من أهل الكتاب" للتبعيض. وأن معنى "لم يكونوا منفكين":
[ ص: 6228 ] أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من "الذين كفروا" -والله أعلم- أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عندما جاءهم ولم ينظروا في دليله، أو أعرضوا عنه بعدما عرفوا دليله، سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب، وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء، فبين أن الذين كفروا -أي: جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب- لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرساله رسوله إليهم! وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم. وبذلك أو هذا ظهر معنى "حتى" وبطل جميع ما يهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد عن الرأي السديد، فصعبوا من القرآن سهله، وحرموا من فهمه أهله. انتهى كلام
الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته، ولكونه أحسن ما فسرت به، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته أحسن ما قيل فيها; فلذلك سميناه (محاسن التأويل)، هدانا الله إلى أقوم السبيل.