القول في تأويل قوله تعالى :
[ 182 ]
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا ، بسبب هتكهم حرمة الله ، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له .
لطائف :
الأولى : إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحدا ، كما روي ، لرضا الباقين بذلك ، ونظائره في التنزيل كثيرة .
الثانية : إضافة عذاب الحريق بيانية ، أي : العذاب الذي هو الحريق .
الثالثة : الذوق إدراك الطعوم ، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات ، وذكره ههنا ؛ لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل ، والتهالك على المال ، وغالب حاجة الإنسان إليها لتحصيل المطاعم ، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ؛ ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال - أفاده
nindex.php?page=showalam&ids=13926البيضاوي - .
الرابعة : تقديم الأيدي عملها ، لأن من يعمل شيئا يقدمه ، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث
[ ص: 1053 ] إن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهن ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه .
الخامسة : إن قيل : ( ظلام ( صيغة مبالغة من الظلم ، تفيد الكثير ، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل ، فلو قيل : بظالم ، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره ! . فالجواب عنه من أوجه :
أحدها : أن الصيغة للنسب من قبيل ( بزاز ) و ( عطار ) لا للمبالغة ، والمعنى : لا ينسب إلى الظلم .
الثاني : أن ( فعالا ) قد جاء . لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
لا يريد ههنا أنه قد يحل التلاع قليلا ، لأن ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد . وهذا يدل على نفي البخل في كل حال ، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .
والثالث : أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده ، فالصيغة للمبالغة كما لا كيفا .
[ ص: 1054 ] الرابع : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان للظلم القليل المنفعة أترك .
الخامس : إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة :
وأن الله ليس بظلام للعبيد - اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم . والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها . وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم .