ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم، وهو إظهارهم أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبادرتهم بأخبار السرايا وإذاعتها بقوله تعالى:
[ ص: 1411 ] القول في تأويل قوله تعالى:
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [83]
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أي: مما يوجب أحدهما
أذاعوا به أي: أفشوه، فتعود إذاعتهم مفسدة من وجوه:
الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.
الثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
والرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه، أفاده
الرازي .
ولو ردوه أي: ذلك الأمر الذي جاءهم
إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور - رضي الله عنهم - أو الذين يؤمرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا
لعلمه أي: الأمر
[ ص: 1412 ] الذين يستنبطونه أي: يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون
منهم أي: من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ونعرف الحال فيه من جهتهم - لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير يعني لم يقل: (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطئهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر.
قال
الناصر في "الانتصاف": في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره. انتهى.
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=28704كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع .
وعند
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم عنه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676263كفى بالمرء إثما ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=481أبي أمامة .
هذا، ونقل
الرازي وجها آخر في الموصول، وهو أن المعني به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك.
فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.
فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله:
وإلى أولي الأمر منهم ؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر؛ لأن المنافقين
[ ص: 1413 ] يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون.
ونظيره قوله تعالى:
وإن منكم لمن ليبطئن [النساء: من الآية 72] وقوله:
ما فعلوه إلا قليل منهم انتهى.
وعلى هذا الوجه يحمل قول
السيوطي في "الإكليل": قوله تعالى:
ولو ردوه الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد.
وقول
المهايمي : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.
وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على
صحة القياس والاجتهاد؛ لأنه استنباط. انتهى.