فصل
في سقوط دعواهم
التواتر في أمر الصلب
قال
القرافي: اعلم أن النصارى قالوا: إنهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وكلهم يخبر أن
المسيح عليه السلام صلب، وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والإنجيل أيضا مخبر عن الصلب، فإن جوزتم كذبهم وكذب ما يدعي أنه الإنجيل، وإن مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب - لزم المحال من وجوه:
أحدها: أنه يتعذر عليكم - أيها المسلمون - جعل القرآن متواترا.
وثانيها: أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية؛
[ ص: 1678 ] فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا.
وثالثها: أن إنكار الأمور المتواترة جحد للضرورة فلا يسمع، فلو قال إنسان: الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب، لم يسمع ذلك منه، وعد خارجا عن دائرة العقلاء، وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق، وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك مشكل.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه، وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها دون غيرها، كما هو مسلم عند كل دري (كذا) منصف.
وها نحن نوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - فنقول: إن التواتر له شروط:
الشرط الأول: أن يكون المخبر عنه أمرا محسوسا، ويدل على اعتبار هذا الشرط أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة، كإخبار المعطلة عن عدم الصانع، والفلاسفة عن قدم العالم، مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة، وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ، فلا يثق الإنسان بالخبر عن العقليات، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر، فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر، أما الأمور المحسوسة مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد على الخطأ، وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب، فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر.
الشرط الثاني: استواء الطرفين والواسطة، وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس، المخبر عنه - حصل العلم بخبرهم.
وإن لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمر المحسوس، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك - فلا بد أن يكون الغير المباشر عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه إن جاز الكذب عليه - وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه - فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم؛ لجواز فساد أصلهم
[ ص: 1679 ] المعتمدين عليه، فيتعين أن يكون الأصل عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فهذا معنى قولنا: (استواء الطرفين) في كونهما عددا يستحيل تواطؤهما على الكذب شرط.
فإن كان المخبر لنا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك، لكن أصلهم لم يباشر ذلك الأمر المحسوس، بل ينقل عن غيره أيضا - فأصل ذلك الأصل يجب أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا؛ لما تقدم، وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة، فالطرفان المخبر لنا، والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما، فيجب استواء الطرفين والواسطة، والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، فينقسم بهذا التحرير التواتر إلى طرف فقط، وإلى طرفين بلا وساطة، وإلى طرفين وواسطة، والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط.
فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول: الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة، وأما أنه
عيسى - عليه السلام - نفسه أو غيره فهذا لا يفيده الحس البتة، بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت، أو بأخبار الأنبياء - عليهم السلام - عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.
والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا، وأريناه لإنسان، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الإنسان، وقلنا له: هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله؟ فإنه إذا أنصف يقول: الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة، أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له فلا أعلم؛ لكون الحس لا يحيط بذلك، هذا في المائعات.
وكذلك كف من تراب، أو أوراق الأشجار، أو أنواع الحبوب، كالحنطة مثلا، إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك، وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ، وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها.
مطلب:
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري، والحيوان
[ ص: 1680 ] الإنسي يختلف ذلك فيه - بحسب مقتنيه - اختلافا كثيرا، فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق، وإيثار نوع من العلف على غيره، ومكان مخصوص على غيره، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها، فيختلف الحيوان الإنسي بحسب ذلك، ثم يتصل ذلك بالنطف في التوليد، مضافا إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف، والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك، فتشابهت أفراد نوعه، ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة.
فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين، ولا التمييز بين الشيئين، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى - عليه السلام - دون شبهه أو مثله - ليس مدركا بالحس، وإذا لم يكن مدركا بالحس جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى - عليه السلام - شبهه في غيره، كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيرها، ثم يرفعه ويصونه عن إهانة أعدائه، وهو اللائق بكريم آلائه، في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه.
وإذا جوز العقل مثل هذا - مع أن الحس لا مدخل له في ذلك - بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض، مؤيدا بكل حجة، وسقط السؤال بالكلية.
وثانيها: سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين، والتمييز بين الشبهين، ولكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويدل على أنهم ليسوا كذلك أن الحواريين فروا عنه؛ لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود، فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم، لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به، لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين:
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه أي: هم لا يتيقنون ذلك، بل يحزرون بالظن والتخمين.
وأما من جهة الملة اليهودية فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة وأعوان الولاة، وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا، كالاثنين أو الثلاثة، ونحوها يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة، وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر، فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا
[ ص: 1681 ] علم بالصلب؛ فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد سقط اعتبارها في إفادة العلم؛ لجواز كذب الناقل، فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر، والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والإنجيل، ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروي التوراة والإنجيل عدلا عن عدل إلى
موسى وعيسى - عليهما السلام - وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل فأولى أن يتعذر التواتر، ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا، بحيث إن التواريخ الإسلامية أصح منها؛ لقرب عهدها، مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ، فضلا عن أصول الأديان، وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد في غاية الضعف - كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل.
وثالثها: أن نصوص الإنجيل مشعرة بعدم صلب
عيسى - عليه السلام - بخصوصه، كما نقلنا بعضها آنفا.
وقال في "تخجيل الأناجيل": فيقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أم آحادا؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري؛ إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك فلا يحتج بهم في القطعيات.
وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط، وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به، وهو المصلوب، وعلموا أنه هو ضرورة، فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر، فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل
المسيح وصلبه بهذه الصفة - أكذبتهم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم؛ إذ قال لهم نقلتها الذين دونوها لهم وعليها معولهم: إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم، ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، ولما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت: هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله، وخادعهم حتى تركوه، وذهب ولم يكد يذهب،
[ ص: 1682 ] وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا، فهؤلاء أصحابه وأتباعه، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم.
وأما أعداؤه اليهود - الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر - فلم يبلغوا عدد التواتر، بل كانوا آحادا وأفرادا؛ لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصا على خشبة ومعه لصان مصلوبان، ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم.
وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضا، ففي الإصحاح الثاني والعشرين من "إنجيل لوقا" ما لفظه: فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم، وقالوا له: إن كنت أنت
المسيح فقل لنا: فقال لهم: إن قلت لكم لم تؤمنوا لي، وإن سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني. انتهى.
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته، على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم يمكن تواطؤهم على الكذب؛ لأنهم لما لم يجدوه هو، ولم يعلموا محل
المسيح، وكان ذلك من تلاميذه، واستحلوا قتله أيضا - أشاعوا أنه هو
المسيح؛ ليترك الناس متابعته، ولئلا يتخذوا
المسيح نبيا، وصمموا أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضا يعملون به كما عملوا بصاحبه، ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسا لئلا ينبش القبر ويرى أنه غير المسيح.
ومما يزيد الأمر وضوحا قول "إنجيل متى" في (الإصحاح الثامن والعشرين): أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكا قد نزل من السماء برجة عظيمة، فدحرج الحجر عن فم القبر، وجلس عنده، فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته، وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة، فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام، فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود؟ كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم، صلبوا شخصا من أتباعه وأوهموا الناس أنه
المسيح، فإذا تبين عدم الاحتجاج بإجماع اليهود والنصارى الآن على صلبه، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية.
فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده، وهم اليهود، ويضربونه ويعملون به ما هو محرر
[ ص: 1683 ] في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة، مع أنه يفر منهم مرات كثيرة، ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله: أجز عني هذه الكاس، ويصرخ ويقول: إلهي! إلهي! لم تركتني؟ ويسلم روحه، وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه، فيعطوه خلا بدله، وأي خلاص لعباده في هذه الحالة، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة، بل صار موقعا لهم في الإثم بسبب عدم إيمانهم به، فكيف يكون مخلصا بنفسه؟!
وأما النقل، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها، والدلالة على عدم المعرفة به، وعدم وجوده في قبره، والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سليم قوله تعالى:
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
وأما قول متى في (الإصحاح السابع والعشرين): فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من الأجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا
المدينة المقدسة، وظهروا للكثيرين - فهو قول بهت ومحال، لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال؛ لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله، ولم يتفق إخفاء مثله، ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، فحيث داموا على الجحد له والتكذيب دل على كذب ما نقله عباد الصليب، وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة - كما علمت سابقا - لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع؛ كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة؟! وتقوم الأموات من قبورها؟! ويدخلون المدينة ؟! ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك؟! وأيضا ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم؟ فهل كان استبشارا بمصابه؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه، أو كان جزعا على مماته؟ وخرجوا إعانة له قبل فواته؟ فواعجبا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفات، ولم يعينوه حتى قضى ومات، وأحيى الرمم، وصرخ عند تسليم الروح
[ ص: 1684 ] ولم يقدر على إبراء ما فيه من جروح، وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون؟ أبقوا في المدينة المقدسة؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون؟ وهل التأم الهيكل والصخور؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور؟
فإن قيل: إنما لم يشتهر ذلك؛ لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم أحد خوفا من اليهود، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدا وبغيا - قلنا: مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت علمها من حضر ومن غاب، من الأعداء والأحباب؛ لأنها آيات نهارية، ومعجزات تشتهر في البرية، ويتناقلها أهل البلدان، وتبقى مؤرخة بكل لسان، في سائر الملل بكل أرض وزمان، فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال مما اخترعها وحررها أئمة الضلال؛ ليخدعوا بها ضعفاء العقول، ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول. انتهى.
وقال الإمام
ابن حزم - رحمه الله – في كتابه "الملل" عند الكلام على النصارى: ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف (جمع كافة) من سائر الملحدين: أن قال قائلهم: قد نقلت اليهود والنصارى أن
المسيح - عليه السلام - قد صلب وقتل، وجاء القرآن بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟!
فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل - فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.
فإن قلتم: اشتبه عليهم، فلم يتعمدوا نقل الباطل فقد جوزتم التلبيس على الكواف، فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها، فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.
وقولوا لنا: كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟
فإن قلتم: كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه وجب من قولكم "الإقرار" أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به، وفي هذا ما فيه.
وإن قلتم: كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب
[ ص: 1685 ] الكواف، وفي هذا إبطال قول كافتكم، بل إبطال جميع الشرائع، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم، ووقعتم، وفي هذا ما فيه.
قال
أبو محمد - رضي الله عنه -: هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.
فنقول وبالله التوفيق: إن صلب
المسيح - عليه السلام - لم يقله قط كافة، ولا صح بالخبر قط؛ لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي: إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم، وعدم التقائهم، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا.
وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤوا عليه، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما، وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه، وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفارا ولا يقطع على صحته إلا ببرهان، فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح - عليه السلام - فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه، فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين، مضمون منهم الكذب، وقبول الرشوة على قول الباطل.
والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا؛ خوف العامة، وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح، وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار، وأنه أنزل إثر ذلك، وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار، ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب، ولا موقوفا لذلك، وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك، وإن
مريم المجدلانية - وهي امرأة من العامة - لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر، هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره
[ ص: 1686 ] على أنه مكتوم متواطأ عليه.
وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم، غيبا عن ذلك المشهد، هاربين بأرواحهم مستترين. وأن "شمعون الصفا" غرر ودخل دار "قيقان" الكاهن أيضا بضوء النهار فقال له: أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد، وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى:
ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل، وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه، وهم كاذبون في ذلك، عالمون أنهم كذبة، ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها؛ إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة، ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها، ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس، وفيمن يجالس، وفي حيث هو فلعله نائم، أو مشبه على حواسه، وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة.
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك، وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد
هشام بن الحكم المستنصر، فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن، وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت، وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه، ثم لم يلبث شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا، وبويع بعد ذلك بالخلافة، ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه، ورأيته، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام.
قال
أبو محمد - رضي الله عنه -: وأما قوله: قد جوزتم التمويه على الكافة، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط، وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات، فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها، كخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من
قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.
وأما ما لم يأت خبر عن
[ ص: 1687 ] الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك؛ لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن، إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل، فيلزم قبوله، وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك، ولا يجوز على الجماعة كلها.
وقوله تعالى:
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود أنه - عليه السلام - قتل وصلب، فهؤلاء شبه لهم القول، أي: أدخلوا في شبهة منه، وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت، وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس، ثم أنزلوه ودفنوه؛ تمويها على العامة التي شبه الخبر لها.
ثم نقول لليهود النصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسألة: إن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء إماء، وهو حرام عندكم، وعن
هارون - عليه السلام - أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه، وقد نزه الله تعالى الأنبياء - عليهم السلام - عن عبادة غيره، وعن الأمر بذلك، وعن كل معصية ورذيلة، فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم
موسى - عليه السلام - وسائر أنبيائهم - كان كل ما أمروهم به مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان - عليهما السلام - وسائر أنبيائهم، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.
وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه، وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره، لا أنه خار بطبعه قط، وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها
السامري من أثر
جبريل - عليه السلام - والذي يعتمد عليه فهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - الذي ذكرناه، وبالله تعالى التوفيق.
[ ص: 1688 ] وأما قوله: كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية، قد حذر منها الأوائل كثيرا، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام، وذلك أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين: إما فرض بإنكار، وإما فرض بإقرار، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه، وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه، غاش لمن اغتر به.
وإن الحقيقة ههنا أن يقول: هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح.
وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك، لا بإقرار ولا بإنكار، وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري، ممكن صدق قائله، فقد قتل أنبياء كثيرة، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك، وهو بمنزلة شيء مغيب في دار، فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد: ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء، ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب
المسيح - صلى الله عليه وسلم - ولا بإنكاره، وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.
فإن قالوا: قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول، قيل لهم وبالله التوفيق: الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه - عليه السلام - هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى، مفتر عليه، كافر به، فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقا أو كانوا كافة فما كان "
يوحنا " و"
متى " و"
بولس " إلا كفارا كاذبين، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.
وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا فالكاذب لا يقوم بنقله حجة، فبطل التمويه المتقدم، والحمد لله رب العالمين.