[ ص: 1689 ] فصل
أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد، فطفق يرد على المسيحيين قولهم بتثليث الآلهة، وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي، أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والإنجيل الموجودين، وأنهما لم يحرفا تحريفا جوهريا، واعتقد بصلب المسيح يقينا، وصار يناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة، أعني آية الصلب، زاعما أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبة الفعل لهم؛ توبيخا لتهكمهم وازدرائهم، ورد فعل الصلب إليه تعالى، وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتابا سماه "المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح".
ولما كان مبحثه غريبا جدا أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته، وأعقبها بما فوق عليه من سهام ردود تهافته.
قال في أول رسالته: إن التباس فهم آية الصلب هو غالبا في تقدير نائب الفاعل لفعل (شبه لهم) فإنا إن قدرنا نائب الفاعل مصدرا مأخوذا من الفعل السابق المذكور في الآية:
وما قتلوه وما صلبوه وكان التقدير: شبه لهم أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم إياه، والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين - انحلت المسألة تقريبا، وزالت كل صعوبة تأويل؛ حيث إن السيد المسيح لم يقتل أصلا، ولا صلب قهرا، أو مات جبرا، أو اضطرارا، بل هو من نفسه (على زعمه) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه، فكأن اليهود لم يفعلوا شيئا بقدرتهم ومجرد إرادتهم، حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه.
وأما إن قدر المسيح نائب الفاعل لـ(شبه) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي؛ لأنه لا وجه - لغويا - في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره، إذ لم يذكر صريحا ولا إشارة.
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى - ولا مرة - على ضلال
[ ص: 1690 ] اعتقادهم بصلب
المسيح وموته وقيامته، ولا كذب الإنجيل أو الحواريين، ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح، حال كونه نبههم مرارا على غير ضلالات عندهم.
وذكر فيه أيضا: لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفي صلبه، وفيه أيضا: إن هذه الآية يصح تأويلها إيجابيا طبقا لما في الإنجيل، بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أولت بخلاف ظاهرها اللفظي، كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة وما أشبه ذلك، التي نسبت صريحا لغير فاعلها الظاهر.
وقال في الفصل العاشر: أما قولنا: إن القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود وإسناده لله حقيقة - فهو استناد على قوله:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال: 17]، وقوله:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم [الفتح: 10] فهنا الفاعل الظاهر حسا وفعلا إنما هو الرسول
محمد - عليه الصلاة والسلام - ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل.
ثم قال: وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى، وأنه تعالى هو المبايع، فنقول: كذلك في آي الصلب وإخباره مرارا عديدة صرح في الإنجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله.
ثم قال: نقول أخيرا: إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماما وكمالا، ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن، ولكل فحوى أسفار الميثاقين أو العهدين،
[ ص: 1691 ] بكل بيان، إنما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطا وضد الحقيقة والذوق اللغوي، وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن، ومن نصوص سائر الكتب المنزلة، ولا سيما الإنجيل، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء، وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمدا مبلغ القرآن العظيم، الحاوي روح الصدق والحق، والمذكر بكل ما قال المسيح في الإنجيل الشريف.
ثم قال: إن إنكار أمر الصلب أو إثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين، ولا هو محرم قطعا الاختلاف في تفسير بعض آيات، وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين، وليس ذلك محرما إلا إذا آل لإنكار أو لإفساد نفس الآيات، أو إيقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي، ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك، بل بالعكس تأييد كل النصوص الإلهية.
هذا خلاصة ما أورده في رسالته، وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر، في تآليف بديعة، منها كتاب "السيوف البتارة" اعتمد مؤلفها في إيراد حججها على التواريخ الإفرنجية المعول عليها، فإن الإفرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم، وأبعد من مظنة التشيع في شهادتهم على أنفسهم في أمر دينهم.
قال رعاه الله: يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن
مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموما ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصا؛ فإنهم كانوا غالبا يرفضون حصول الصلب رفضا باتا؛ لأن بعضهم كان يعتبره إهانة لشرف
المسيح ، ونقصا فاضحا، والبعض الآخر كان يجحده ارتكانا على الأدلة التاريخية، وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة، منها: الساطرنيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون والتاتيانيسيون والكاربوكراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون؛ إذ كلهم اعتقدوا - مع كثيرين غيرهم - بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع أن المسيح سمر
[ ص: 1692 ] فعلا، أو مات على الصليب حقيقة، حتى استخفوا بالصليب والصلب.
وقال بعض المؤرخين الأفاضل: إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر الذي كان سببا في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي آخرين مارقة من الدين، ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلا ونقلا، بخلاف أفكار مضطهديهم - فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى - عليه الصلاة والسلام – أنه لا يجوز أن يمتهن، واستنتجت من هذا أنه لم يصلب قطعا، وأن ألفاظ التوجع والتضجر - التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين - لم يتفوه بها ولا تصح نسبتها إليه.
وبالجملة إن الشخص المصلوب غير
عيسى قطعا، وأنه - عليه الصلاة والسلام - لم تسلط عليه أيدي مضطهديه، بل رفع إلى السماء، ومن القائلين بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية وغير خاف - أنه حتى على فرض البنوة فقط - لا يمكن عقلا أن يتصور صلبه. انتهى.
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير ( الموسيو إدوار سيوس ) أحد أعضاء (الانستيتو دي فرنس) في باريس، المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه (عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية) صحيفة (49): إن القرآن ينفي قتل
عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره، فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وإن ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منهم الباسيليديون كانوا يعتقدون - بغاية السخافة - أن
عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ألقي شبهه على سيمون السيرناي تماما، وألقي شبه سيمون عليه، ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين، ومنهم السيرنتيون فإنهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى، وقد عثر على فصل من كتب الحواريين، وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين وقد صرح " إنجيل القديس برنابا" باسم الذي صلب بدل عيسى قال: إنه يهوذا. انتهى.
ولم يرد المؤرخ المترجم كلامه على هذا الإنجيل إلا بدعوى أنه كلام لا يعول
[ ص: 1693 ] عليه، وهذا الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف، فيستفاد من جميع ما ذكر أن جما غفيرا من طوائف النصارى - ذوات البال والأهمية - كانت تنبذ
عقيدة صلب المسيح نبذا، وتفندها تفنيدا، وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجا؛ لإنكار القرآن ما أنكروه من الصلب وغيره.
وبالجملة فإن أغلب الشعوب الشرقية - قبل الفتح الإسلامي -رفضت القتل والصلب، حتى قال ياسيليوس الباسليدي : إن نفس حادثة القيامة - المدعى بها بعد الصلب الموهوم - هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب، ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم، فهم أقرب الناس إلى العلم بحقيقتها، وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم؛ لحصول الجوار وقرب المسافة، فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب؟!
وبذلك يتبين أن دعوى (صاحب جريدة شهادة الحق) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن الشريف بنفيه - غير مسلمة، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب.
وقد صرح القرآن بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود، والنصارى مع بعضهم بعضا، ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرر أقوالهم، وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني إسرائيل في ديانتهم، فكان من مبادئهم - العاملين عليها في سياستهم العمومية - بذل المجهود وإفراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود؛ لإدخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية، والضغط على شعائرهم الملية.
يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في (الأكاديمية الفرنساوية) المنفرد بالإجادة والشهرة في رسالة نشرت في جريدة العاملين في 15 مارس 1893، معنونة بـ(اليهود تحت حكم الرومان) حيث قال:
إن كل المناصب ذوات المرتب الباهظ كانت تعطي غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريا، ويجعلون شعائرهم الملية شينا، ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية، فكان من
[ ص: 1694 ] ضغط الرومان، ومن تزلف اليهود إليهم، ومن أطماعهم إلى الرتب والألقاب - أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتر الألومبي ، وكان الواحد منهم يخفي الاختتان بعملية شاقة جدا (ذكرها سلس المؤرخ الروماني الشهير) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيها وإعجابا بنفسه وبعوائد الرومان، وازدراء واحتقارا لبني جلدته وذوي ملته؛ فرحا بلقمة يلتقمها، أو مرتبة يتربع في دستها، وما زالت اليهود تترومن، حتى إن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع، واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية.
وأخيرا آل الأمر - قبل وجود عيسى عليه السلام - إلى إدخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه، بحيث إن القربانات كانت تعمل أمامه، حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود، ووقع ذلك سيئ الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها. انتهى.
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود، فليس من المعقول أن الحكومة - وهي ما ترى من الكراهة الدينية لليهود - تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب، أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية، خصوصا والحاكم الروماني على فلسطين في ذلك الوقت كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار، وهم يكرهونه أشد من ذلك، دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى "حياة المسيح" حينما تكلم على شكاية اليهود من
عيسى بدعوى أنه غير التوراة، وكان ذلك - على زعمهم - ليستوجب قتله، حيث قال: إن حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب (بيلاطس) أظهر عدم عنايته بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم، بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلفة وأفكار معتلة.
وبالإجمال كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم؛ لأنهم كانوا يجدونه قاسيا ذا أنفة وكبر، غير مكترث بهم، ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل، والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا سحق أثر الشريعة الموسوية سحقا ومحوها محوا، وتعصبهم الأعمى وكراهتهم
[ ص: 1695 ] الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم، فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية، التي كانت نهاية فخر كل روماني في ذلك الحين، وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية؛ لأنه كلما هم بجلب النافع العام، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية - قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير، فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية، وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم، فانشغب الأمر ودام الفشل.
وأخيرا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه، ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد
عيسى - عليه الصلاة والسلام - حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه،
وعيسى ضد اليهود، ويعيب التوراة كما يقولون، فكان ذلك عن رغبة الحاكم، وجل ما يتمنى، فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله؟ مع أنه كان قادرا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم، والحقيقة أن بيلاطس كان ميالا كل الميل لخلاص السيد المسيح من هؤلاء الظلمة، ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة فراقه ذلك، زيادة عن كراهته لليهود، فعمل على خلاصه من الصلب، كما يتضح من "إنجيل متى" 27 و 24 و"لوقا" 23 و 12و"يوحنا" 13 - 23 وفي بعض آيات الإنجيلين أن
عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة (كما هو مذكور في "إنجيل متى" 27 و 19): إياك وهذا البار؛ لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله، ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة.
والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل
سليمان - عليه السلام - فظهر لها بكماله الحقيقي، فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور، وكيفما كان السبب فالذي لا يشك فيه أحد أن بيلاطس كان محبا لعيسى - عليه السلام - حبا شديدا، ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته. انتهى.
[ ص: 1696 ] فيؤخذ من كلام (رنان) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ كان مضادا للصلب، فلا غرابة في عدم حصوله
للمسيح - عليه السلام - وتبديله بآخر، وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح، حتى إن ترتوليانوس أحد آباء الكنيسة النصرانية جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيا في الباطن.
وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه ( ملمن ): إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك أيضا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن، ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين كـ(المسيوشارل بيكا) و(أرنست دي بونس) وغيرهما، فإن الأول قال: إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير؛ لتوافق اعتقادات قديمة، مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم، وكانت اليهود تقدم أولادها قربانا للذبح؛ استجلابا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه.
ويقول: إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه، ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء بدل ذبح الآدمي قربانا بذبح الحيوان، وأطال المسيو (بيكار) في شرح ارتباط تضحية سيدنا
عيسى - عليه الصلاة والسلام - مع هذه العوائد القديمة، فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملا رمزا عن شيء عندهم اسمه (اللنجام) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما.
وأما المسيو (
أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى بـ"النصرانية الحقة" صحيفة 142 ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح - عليه الصلاة والسلام - لا من أصول النصرانية الأصلية.
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ - فضلا عن كونه لم يثبت مسألة الصلب
[ ص: 1697 ] والقتل - يرجح نفي حصوله رجحانا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي، ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى؛ لأنهم أبناء جلدتها، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية، فيؤخذ من كل ذلك:
أولا: أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص
المسيح - عليه الصلاة والسلام - وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية، وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها.
ثانيا: وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم.
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدا لا مزيد عليه، ومن ضمنها أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - حكم عليه من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة، ومن المعلوم أن الحكم في ذلك الموضوع الرجم لا الصلب، فهذا مما يرتكن عليه مثل المسيو (
شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة، وهي مسألة الفدا. انتهى كلام صاحب السيوف البتارة.
ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه، أعياه الرد من الطريقة التاريخية، فأخذ يرد عليها تشبثا بأسباب واهية، فعد كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول هرطوقيا، أي: مارقا من الدين، ورمى أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الإفرنج، ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية، وقال: إنه لا يمكنه أن يزيف شيئا منها ما دامت شاهدة - من أولها إلى آخرها - بحصول الصلب حقيقة، وأنه يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق.
فعاد صاحب "السيوف البتارة" وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الإفرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه، تكملة للأول، فتوسع - جزاه الله خيرا - في هذا الموضوع ثم قال (في الكلام على الإنجيل) ما لفظه: أما الإنجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير؛ إذ
[ ص: 1698 ] لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الإنجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة؟! ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل، مختلفة كل الاختلاف، متضاربة كل التضارب؟! ولا يدرى لماذا عدلوا عن "إنجيل برنابا" مثلا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية، فإنا نجد هذا الإنجيل يخبر أن السيد
المسيح : نبي، عبد، مخلوق، ليس بإله، وأنه لم يصلب، وفيه البشارة بسيدنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - مذكورا بلفظه (كذا) وهاك ما قاله السيد
المسيح في الإنجيل المذكور: (وإني وإن كنت بريا، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله - كره الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزؤون، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس).
وقد استشهد العلامة (سيل) الإنكليزي المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف بهذه الآية الإنجيلية، تفسيرا لقوله تعالى في سورة آل عمران:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [آل عمران: 54].
وإنجيل برنابا أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، حتى إن العالم الإنكليزي (تولاند) قال: وعلى النصرانية السلام بمجرد رؤيته هذا الإنجيل، ثم قال: قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون: إن الإنجيل الأصلي كان واحدا، إلا أنه لم يكتب، بل قاله المسيح مشافهة، ورواه الحواريون عنه للناس شفاهيا أيضا، فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص، ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم، وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت، وكتب أخيرا منها أناجيل شتى، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية.
[ ص: 1699 ] ثم قال مؤلف "السيوف البتارة": فوضح وضوحا تاما لذي بصيرة أن الحجة على دعوى صلب
المسيح قد سقطت سقوطا لا تقوم بعده أبدا، سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم؛ لذهاب أصلها أدراج الرياح بثبوت التحريف والتغيير لها.
ثم قال: وأما قوله (يعني المذبذب) بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة - فغريب؛ لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح، وهل الاقتصار في الرد من باحث على قوله (كفرة) يعد من باب نقض الدليل بالدليل وتزييف الحجة بالحجة؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح، وإذا جاز إطلاق (كفرة) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية - جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني، وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم، وتكون في ردك بكلمة (هراقطة - كفرة) أشبه بمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة (لا) فقط، فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها.
ثم قال: فقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء، وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن، وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا، وذهبوا فيه كل مذهب، فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أي عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم، حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات، فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه، ولا اجتمع فيه رأيان، كان ذلك من باب التقليد والتسليم، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال: إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصور، هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم (كما يقولون) وأساس معتقدهم، حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين، ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين، كالإخبار عن
[ ص: 1700 ] نوح وإبراهيم وموسى ، مما سبق لنحو الوعظ والاعتبار - فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن
عيسى - صلى الله عليه وسلم - صلب أو قتل، ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان، وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته، ولو حكمنا غير متدين في هذه المسألة، ونظر لأهميتها عند النصارى، مع عدم قدرتهم على إثباتها، ولفرعيتها عند المسلمين، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم - لانبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره، وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر؛ ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له، ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم، لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين، من غير استناد على دليل نقلي صحيح، أو عقلي مسلم، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد، ناشدين الحقيقة، فانجلت لكثير منهم عن تدمير هذا البناء التقليدي، والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم.
ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الإفرنج وغيرهم أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء، وألوهية
عيسى إلى غير ذلك - قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين، كما جاء في رسالته لأهل غلاطية، حيث قال: أنتم الذين رسم يسوع
المسيح بينكم مصلوبا، وقال في رسالته لأهل رومية: نحن نقوم بشبه موته، إلى أن قال: فدفنا معه بالمعمودية؛ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بارتفاعه، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ... إلخ.
فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة، وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب، كما جاء في إنجيل برنابا، وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق، وأنت لاه عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال، وإنما أتينا بكلامه تنزلا معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية، فنقول: حتى على
[ ص: 1701 ] فرض صحة ما روي عن
بولس نفسه فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل، لا لحصولهما حقيقة.
هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها: (الشرير فدية الصديق) لكان معناه - على مقتضى زعمك - أن
عيسى شر بالإضافة لكل أحد، وهذا لا يجوز لا عقلا ولا شرعا، فوجب - أخذا من عبارة التوراة - أن يكون المصلوب شريرا فداء لصديق، هو
عيسى - عليه الصلاة والسلام - كما جاء في إنجيل
برنابا . انتهى ملخصا.
ولن يعدم الحق أنصارا، والباطل خزيا وانكسارا.