[ ص: 1858 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[5]
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين
وقوله تعالى:
اليوم أحل لكم الطيبات أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال
أبو السعود: قيل: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مر.
تنبيه:
قال بعض مفسري
الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في "الروضة والغدير": وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله علي عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن
nindex.php?page=showalam&ids=8عليا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبز شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضن نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=481وأبو أمامة nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء; أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم
[ ص: 1859 ] يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.
قال
المهايمي: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.
مباحث:
الأول: ما ذكرناه من أن المعني بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف: صحابة
nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=481وأبي أمامة، وأتباعا
nindex.php?page=showalam&ids=16879كمجاهد وثمانية غيره، كما في
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16456وابن كثير. وفي "اللباب": أجمعوا على أن المراد:
وطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولاه من كتابي أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.
الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.
قال
الحافظ ابن حجر في "الفتح": وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال
ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فسر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، أن اليهودي، إذا ذبح ما له ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال
ابن حجر: وقوله تعالى:
أحل لكم الطيبات [ ص: 1860 ] يستدل به على الحل، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.
وفي "الصحيح" عن
nindex.php?page=showalam&ids=5078عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=652920«كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» . وفي رواية:
nindex.php?page=hadith&LINKID=660328«أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم» .
قال
الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرم عليهم كالشحوم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر
ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز
أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.
وقال
الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في "الصحيح"
nindex.php?page=hadith&LINKID=941845أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1861 ] شاة مصلية. وقد سموا ذراعها - وكان يعجبه الذراع - فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره. وأكل معه منها nindex.php?page=showalam&ids=1054بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر:
nindex.php?page=hadith&LINKID=693569«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا» .
الثالث: تمسك
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي - من أئمة المالكية - بهذه الآية على حل ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه
الشيخ خليل في "توضيحه" واستبعده. وقال الإمام
ابن زكري: صنف
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي في إباحة مذكى النصراني بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه
محمد الدليمي السوسي المالكي في "فتاويه"، وقد سئل عن
ذبيحة الكتابي: هل تحل المذكى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا:
[ ص: 1862 ] قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12815ابن العربي: إذا سل النصراني عنق دجاجة حل للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى.
الرابع: قال
الرازي: نقل عن بعض أئمة
الزيدية; أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض
الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام)؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى:
إلا ما ذكيتم وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية
والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير
يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال
القاضي: الأقرب الحل. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب. أجيب: بأنه خصهم لئلا يظن أن طعامهم الذي لم يذكوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى:
إنما المشركون نجس فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلا ما أخذناه قهرا. وعند
المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.
وفي "الروضة الندية" ما نصه: وأما
ذبيحة أهل الذمة، فقد دل على حلها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم
[ ص: 1863 ] ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
الخامس: أريد ب: أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وهم متنصرو
العرب من
بني تغلب - فلا تحل ذبيحته. روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب قال: لا تأكل من
ذبائح نصارى بني تغلب؛ فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود. وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن
ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس به. ثم قرأ:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم . هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري والحكم وحماد - كذا في "اللباب".
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: وأما المجوس فإنهم - وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب - فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا
لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي (أحد الفقهاء من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد: nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور كاسمه - يعني في هذه المسألة - وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=20452سنوا بهم سنة أهل الكتاب. [ ص: 1864 ] ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في "صحيح"
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف nindex.php?page=hadith&LINKID=652923أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل...!
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول
ربيعة. وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء، عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحل. فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر اسم الله، وأنت تسمع، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكل. فقد أحله الله لك. كذا في "اللباب". وقول
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن - في هذا البحث - هو الحسن.
وفي "النهاية" من كتب
الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب وعموم قوله تعالى:
وما أهل به لغير الله فتخصيص
[ ص: 1865 ] كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم
ذبيحة المرتد. وأجازها
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق، وكرهها
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح
بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصر والمتهود من
العرب، كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.
وقوله تعالى:
وطعامكم حل لهم يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في "التفسير" المنسوب
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس.
ونقل بعض مفسري
الزيدية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=4وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج: تأويله: حل لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلا يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس
[ ص: 1866 ] النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه
لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس حين قدم
المدينة ثوبه. فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك. فأما الحديث الذي فيه
nindex.php?page=hadith&LINKID=691754«لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.
وقال
الرازي: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال
البرهان البقاعي في "تفسيره": وقوله تعالى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله:
وطعامكم حل لهم أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي "أمالي" الإمام
السهيلي رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا:
[ ص: 1867 ] هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا - كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى - طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي وغيره.
الثاني:
للنحاس nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج nindex.php?page=showalam&ids=15426والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول - وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حل لهم)؟ انتهى.
قال
الناصر في "الانتصاف": وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله:
وطعامكم حل لهم كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله:
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإن لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة - أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم - أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.
والمحصنات من المؤمنات عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حل لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى:
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وهو المروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وسفيان nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد. وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير رواية أخرى عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه قال:
[ ص: 1868 ] المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحر يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في "القاموس".
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.
أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية: ومن لم يستطع منكم طولا إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد إلى تحريم
نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى:
والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بإسناد رجاله ثقات،
nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في "الكبير" و "الأوسط" من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو: nindex.php?page=hadith&LINKID=687037أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وحسنه، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: nindex.php?page=hadith&LINKID=665471أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغي يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال فسكت عني. فنزلت الآية: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها. [ ص: 1869 ] وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود بإسناد رجاله ثقات، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=673679«الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» . قال
ابن القيم: أخذ بهذه الفتاوى - التي لا معارض لها - الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ومن وافقه - وهي من محاسن مذهبه - فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه، من حديث
عمرو بن الأحوص، nindex.php?page=hadith&LINKID=678354أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «استوصوا في النساء خيرا، فإنما هن عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=669671«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها» . قال
المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال
ابن القيم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه، فقالت طائفة: المراد ب (اللامس)
[ ص: 1870 ] ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله nindex.php?page=showalam&ids=14577وعامر الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر. رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عنهم.
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: هن أيضا حل لكم. والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن طائفة من السلف - ممن فسر (المحصنات) بالعفيفات; أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال: لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.
تنبيهات:
[ ص: 1871 ] الأول: ظاهر الآية جواز
نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.
ورواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام
يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان تزوج
نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأن
nindex.php?page=showalam&ids=55طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون. وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي nindex.php?page=showalam&ids=16360وعبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب، أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب كتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان وهو
بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة: أن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة نكح يهودية. فقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر: طلقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق عن
nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب قال: كتب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصراني لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حل، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكان يقول: لا أعلم شركا
[ ص: 1872 ] أعظم من قولها: إن ربها
عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عام خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وكقوله:
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم
الثاني: استدل بعموم الآية من جوز
نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ:
قاتلوا الذين - إلى قوله -:
حتى يعطوا الجزية قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.
الثالث: قال
المهايمي: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهه بالطيب - كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح، فأحل المحصنات منهم، واحتمل كفرهن لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوة، ولا شبهة لهم في أمر نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل؛ فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابي. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري
الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية - وهو مروي
[ ص: 1873 ] عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قالوا - يعني الأكثرين -: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم إلى قوله:
سبحانه عما يشركون وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها
عيسى. وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل على أنهما غيران، حيث قال تعالى:
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قلنا: هذا كقوله تعالى:
الوصية للوالدين والأقربين قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قلنا: في سورة النور:
الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين وقوله في سورة النساء:
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم [ ص: 1874 ] فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأول هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهن باسم ما كن عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله:
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به وقوله تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقوله تعالى:
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله:
ولا تنكحوا المشركات عام نخصه بقوله تعالى:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب أو نقول: أراد ب: المشركات الوثنيات وب:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله: والمحصنات ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله:
ولا تنكحوا المشركات قلنا: نقابل ما ذكرتم بما روي،
أن nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك [ ص: 1875 ] أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك» ; وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأول قوله تعالى:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا: روى
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«أحل لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» . قال في "الشفا": قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس:
nindex.php?page=hadith&LINKID=20452«سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر. أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه وهو فقه غريب.
وقوله تعالى:
إذا آتيتموهن أجورهن أي: أعطيتموهن مهورهن. وتقييد الحل بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشد من شغلها بحق الله تعالى:
محصنين متعففين:
غير مسافحين أي: غير مجاهرين بالزنى:
ولا متخذي أخدان مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في "العناية".
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة عن الزنى - كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم: ولا متخذي أخدان أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح
نكاح المرأة البغي حتى تتوب،
[ ص: 1876 ] وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية وللحديث:
nindex.php?page=hadith&LINKID=688794«لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير: أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.
وقوله تعالى:
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله:
اليوم أحل لكم الطيبات تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك. كذلك في "العناية".