القول في تأويل قوله تعالى:
[69]
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم فيما يستقبلهم من العذاب:
ولا هم يحزنون أي: في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر.
لطائف:
الأول: (الصابئون) رفع على الابتداء. وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها. كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصائبون كذلك، وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه شاهدا له:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
[ ص: 2089 ] أي: فاعلموا أنا بغاة، وأنتم كذلك. ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدة التنبيه على أن
الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح. فما الظن بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. أي: خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله: (وأنتم) تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه. مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. انتهى.
قال
الناصر في "الانتصاف":
ثمة سؤال، وهو أن يقال: لو عطف (الصابئين) ونصبه - كما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16456ابن كثير - لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على (النصارى) ما يفهم من
[ ص: 2090 ] الرفع من أن هؤلاء الصابئين - وهم أوغل الناس في الكفر - يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفرادي. فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفرادي؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف. لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل. تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها. وهو بهذه المثابة؛ لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر، وفائدة التقديم على الخبر المحذوف من ذكره، بعد تقضي الكلام وتمامه، والله أعلم.
الثانية: - فإن قلت: إن قوله تعالى: من آمن منهم كيف يقع خبرا عن: الذين آمنوا أو بدلا، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين؟
أجيبك بأن المراد ب: الذين آمنوا الذي آمنوا باللسان فقط. وهم المنافقون. فالمعنى: الذين آمنوا باللسان ومن معهم، من أحدث منهم إيمانا خالصا. أو يؤول: من آمن بمن ثبت على الإيمان. فيصح في حق المؤمنين الخلص. وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة والمجاز، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه. والوجه الأول؛ إذ في ضم المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم، قاله الخفاجي.
قال
أبو السعود: أما على تقدير كون المراد ب: الذين آمنوا مطلق المتدينين بدين الإسلام، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد ب: من آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه - كما هو شأن المخلصين. أو بطريق
[ ص: 2091 ] إحداثه وإنشائه - كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف. وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام. انتهى.
الثالثة: قال
الرازي: لما بين تعالى أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية والقوة العملية. أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق. وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير. وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى. وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق. ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما: أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال: فلا خوف عليهم بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة: ولا هم يحزنون بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا؛ لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب. (فإن قيل): كيف يمكن خلو المكلف، الذي لا يكون معصوما، عن أهوال يوم القيامة؟ فالجواب من وجهين:
الأول: - أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح. ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي.
والثاني: أنه إذا حصل خوف، فذلك عارض قليل لا يعتد به. انتهى.
ثم بين تعالى بعضا آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله: