صفحة جزء
ثم بين تعالى نوعا آخر من نعمه، وأدلة قدرته الباهرة بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[98] وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني: آدم عليه السلام: فمستقر ومستودع قرئ: مستقر بفتح القاف وكسرها، وأما: مستودع فبفتح الدال لا غير. وهما على الأول، إما مصدران، أي: فلكم استقرار واستيداع، أو اسما مكان، أي: موضع استقرار واستيداع. والاستقرار إما في الأصلاب، أو فوق الأرض، لقوله تعالى: [ ص: 2433 ] ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين أو في الأرحام، لقوله تعالى: ونقر في الأرحام أو الاستيداع في الأرحام، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، لا من قبل شخص آخر، وفي الرحم من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، كأن الرجل أودعها ما كان عنده، أو في الأصلاب، أو تحت الأرض، أو فوقها، فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله:


وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع



ونقل الرازي عن الأصم أن المستقر من خلق من النفس الأولى، ودخل الدنيا واستقر فيها. والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وجعل الأصفهاني (المستقر) كناية عن الذكر، و (المستودع) كناية عن الأنثى. قال: إنما عبر عن الذكر ب (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى ب (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة. والله أعلم.

[ ص: 2434 ] وعلى قراءة (مستقر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قار، ومنكم مستودع، ووجه كون الأول معلوما. والثاني مجهولا، كون الاستقرار صادرا منا دون الاستيداع.

قال الرازي: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول: الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم

قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقا له. انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة، ومن قال: إنه الفهم مطلقا، وليس بأبلغ من العلم - قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.

قال الناصر في "الانتصاف": جواب الزمخشري صناعي، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة.

قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسينا للنظم، واتساقا في البلاغة، ويحتمل [ ص: 2435 ] وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم، والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله، ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها، أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة، وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر، ولا يتجاوزها. فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وأحواله، وعدم النظر فيها والتفكر، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه، كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها. فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم، نفي من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة، فخص به أسوأ الفريقين حالا. و (يفقهون) ههنا مضارع فقه الشيء - بكسر القاف - إذا فهمه، ولو أدنى فهم. وليس من (فقه) بضم القاف؛ لأن تلك درجة عالية، ومعناه صار فقيها - قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن (فقه) أنزل من (علم) -. وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته: فقهت أي: فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل: فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قول: فلان لا يعلم شيئا. وكأن معنى قولك: (لا يفقه شيئا) ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: (لا يعلم شيئا) فغايته نفي حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم، لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر [ ص: 2436 ] في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا. وقولنا، في أدراج الكلام: (إنه نفى العلم عن أحد الفريقين، ونفى الفقه عن الآخر) يعني: بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة، والتفقه فيها بقوم. فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل، وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول. انتهى. وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز، وإبراز محاسنه ولطائفه.

التالي السابق


الخدمات العلمية