[ ص: 645 ] سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله - عن قوله تعالى { حق اليقين } و { عين اليقين } و { علم اليقين } فما معنى كل مقام منها ؟ وأي مقام أعلى ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة . ( منها : أن يقال : علم اليقين ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر و { عين اليقين } ما شاهده وعاينه بالبصر و { حق اليقين } ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار .
و " الثانية " من شاهد ذلك وعاينه مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم وأذواقهم وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر والمستدل بآثارهم .
و " الثالثة " أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان [ ص: 647 ] سمعه كما قال بعض الشيوخ : لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب . وقال آخر : إنه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طربا . وقال الآخر : لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم . والناس فيما أخبروا به من أمر الآخرة على ثلاث درجات : ( إحداها العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل وما قام من الأدلة على وجود ذلك .
" الثانية " : إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار . و " الثالثة " إذا باشروا ذلك ; فدخل أهل الجنة الجنة ; وذاقوا ما كانوا يوعدون ودخل أهل النار النار وذاقوا ما كانوا يوعدون فالناس فيما يوجد في القلوب وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث .
" ومنهم " من شاهد وعاين ما يحصل لهم . و " منهم " من وجد حقيقة الإخلاص والتوكل على الله الالتجاء إليه والاستعانة به ، وقطع التعلق بما سواه وجرب من نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة فإنه يخذل من جهتهم ; ولا يحصل مقصوده بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم فلا ينفعونه : إما لعجزهم وإما لانصراف قلوبهم عنه وإذا [ ص: 651 ] توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصا له الدين ; أجاب دعاءه ; وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة . فمثل هذا قد ذاق [ من ] حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذق غيره .
وكذلك من ذاق طعم إخلاص الدين لله وإرادة وجهه دون ما سواه ; يجد من الأحوال والنتائج والفوائد ما لا يجده من لم يكن كذلك . بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو ; وتعلقه بالصور الجميلة أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه . وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى ولا يحصل له ما يسره ; بل هو في خوف وحزن دائما : إن كان طالبا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل . فإذا أدركه كان خائفا من زواله وفراقه . وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ; فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الإخلاص لله . والعبادة له . وحلاوة ذكره ومناجاته . وفهم كتابه . وأسلم وجهه لله وهو محسن بحيث يكون عمله صالحا . ويكون لوجه الله خالصا ; فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا . أو اندفع عنه ما يضره ; فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من [ ص: 652 ] المنفعة أو اندفع عنه من المضرة ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله ولا أضر عليه من الإشراك . فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة { إياك نعبد } مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة { وإياك نستعين } كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا . والله أعلم .