[ ص: 653 ] سؤال أبي القاسم المغربي يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف وقدوة الخلف أعلم من لقيت ببلاد المشرق والمغرب ; تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية " بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي ؟ ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات ويبين لي أرجح المكاسب كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار والله تعالى يحفظه . والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته .
( أحدها ) التوبة . و ( الثاني ) الاستغفار من غير توبة . فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال .
( الثالث ) الأعمال الصالحة المكفرة : أما " الكفارات المقدرة " [ ص: 656 ] كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة وهي " أربعة أجناس " هدي وعتق وصدقة وصيام . وأما " الكفارات المطلقة " كما قال حذيفة لعمر : فتنة الرجل في أهله وماله وولده ; يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها : من قال كذا وعمل كذا غفر له أو غفر له ما تقدم من ذنبه وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصا ما صنف في فضائل الأعمال .
وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة ; كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة ; فإن كثيرا من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم وكثيرا من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ثم نزله على أحوال الناس . وإذا كان الأمر كذلك فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وكان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أن قد ابتلي ببعض ذلك . فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو إتباع السيئات الحسنات . والحسنات ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات . [ ص: 658 ] ومما يزيل موجب الذنوب " المصائب المكفرة " وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك لكن ليس هذا من فعل العبد . فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الله : من عمل الصالح وإصلاح الفاسد قال : " وخالق الناس بخلق حسن " وهو حق الناس .
وجماع الخلق الحسن مع الناس : أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض . وبعض هذا واجب وبعضه مستحب . وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن كما { nindex.php?page=hadith&LINKID=601300قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن } وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر .
ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله . وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضع فإنها الدين كله ; لكن ينبوع الخير وأصله : إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة كما في قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وفي قوله : { فاعبده وتوكل عليه } وفي قوله : { عليه توكلت وإليه أنيب } وفي قوله : { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له } بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعا بهم أو عملا لأجلهم ويجعل همته ربه تعالى وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك [ ص: 660 ] والعمل له بكل محبوب . ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك .
وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من " صحيح محمد بن إسماعيل البخاري " لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم . ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم إذ لا بد من معرفة أحاديث أخر وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء . وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابا فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالا ; كما { nindex.php?page=hadith&LINKID=601307قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري : أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم ؟ } . فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ؟ ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب والحمد لله رب العالمين . وصلواته على أشرف المرسلين .