[ ص: 666 ] وسئل الشيخ الإمام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية " أيده الله وزاده من فضله العظيم . عن ( الصبر الجميل و ( الصفح الجميل ) و ( الهجر الجميل ) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس ؟
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين : المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور . وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة ; بل ومن السالكين فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد [ الحقيقة الكونية ] دون [ الدينية ] فيرى أن الله خالق كل شيء وربه ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويبغضه وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيها - مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه والملائكة المقربون والمردة الشياطين . [ ص: 669 ] فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه " الحقيقة الكونية " وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره .
ولا يشهد الفرق الذي فرق الله [ به ] بين أوليائه وأعدائه وبين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله وفعل ما يحبه ويرضاه ؟ وهو ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان . فمن لم يشهد هذه " الحقيقة الدينية " الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء ويكون مع أهل " الحقيقة الدينية " وإلا فهو من جنس المشركين وهو شر من اليهود والنصارى . فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية . إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء كما قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم } { سيقولون لله قل أفلا تتقون }
وأما الذي يشهد " الحقيقة الكونية " وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر ويسلك هذه الحقيقة فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله وبين من عصى الله ورسوله من الكفار والفجار فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى . لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه . فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه . [ ص: 671 ] ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس . ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه . فهذا التقسيم في القول والاعتقاد . وكذلك هم في " الأحوال والأفعال " . فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين بالله على ذلك . كما قال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : { nindex.php?page=hadith&LINKID=47429يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ; فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } . وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع . وآخرون قد يشهدون الأمر فقط : فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة ; لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك ; لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه ; والمؤمن يعبده ويستعينه
و " القسم الرابع " شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية . ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو [ ص: 673 ] ذلك ; وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك . فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام . ( أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة . ( والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات : لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه .
و ( الثالث قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام ; والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها . وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام . وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض [ ص: 674 ] أو فسادا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .
( وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام : لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا ; بل هم كما قال الله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعا }
{ وإذا مسه الخير منوعا } فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا . إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم . وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق : { nindex.php?page=hadith&LINKID=601308فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } [ ص: 675 ] فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار .