فأجاب : شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه . الحمد لله هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين . ( أحدهما عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها التي هي مورد الكلام .
و ( الثاني عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها ; ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر . فينبغي أن يعلم أن كل واحد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره ما لا يضبطه العباد : كالشك ثم الظن ثم العلم ثم اليقين ومراتبه ; وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك ; ولهذا كان الصواب عند جماهيرأهل السنة - وهو [ ص: 722 ] ظاهر مذهب أحمد وهو أصح الروايتين عنه وقول أكثر أصحابه - أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي : كالألوان والطعوم والأرواح . فنقول أولا الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل لكمال وجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال ولم يفعلوه وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتا كثيرا ; لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزما تاما .
وهذه " المسألة " إنما كثر فيها النزاع ; لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شيء من الفعل وهذا لا يكون . وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل بل لا بد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل وهذه هي الإرادة الجازمة .
فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة : [ ص: 724 ] وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب وما يحصل للكفار بهم من الغيظ وما ينالونه من العدو . وقال : { كتب لهم به عمل صالح } فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم : وهي الإنفاق وقطع المسافة فلهذا قال فيها : { إلا كتب لهم } فإن هذه نفسها عمل صالح وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فما حدث مع هذه الإرادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الإعانة هي لهم عمل صالح . وكذلك " الداعي إلى الهدى والضلالة " لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدى الأتباع وضلالهم وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه كان بمنزلة العامل الكامل فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه : للهادي مثل أجور المهتدين وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة ; فإن السنة هي ما رسم للتحري فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك وفعله بحسب قدرته . ومن هذا قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=596996النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ; } لأنه أول من سن القتل " فالكفل [ ص: 725 ] النصيب مثل نصيب القاتل كما فسره الحديث الآخر وهو كما استباح جنس قتل المعصوم لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة فصار شريكا في قتل كل نفس ومنه قوله تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } .
وكذلك في حديث nindex.php?page=showalam&ids=143العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { nindex.php?page=hadith&LINKID=596999قال : إني عند الله لخاتم النبيين . وإن آدم لمنجدل في طينته } الحديث . [ ص: 729 ] فكتب الله وقدر في ذلك الوقت وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود . فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل ; على أنه إمام مطلق لجميع الذرية وأن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين ; كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب ; فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة nindex.php?page=showalam&ids=16108شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا - إما من مراسيل الزهري .
ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597004إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم } فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وإن كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافئة .
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل ; ولهذا قال : " فعملها " " فلم يعملها " ومن أمكنه الفعل فلم يفعل لم تكن إرادته جازمة ; فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل وموجب له ; إذ لو توقف على شيء آخر لم تكن الإرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل ومن المعلوم المحسوس أن الأمر بخلاف ذلك ولا ريب أن " الهم " و " العزم " و " الإرادة " ونحو ذلك قد يكون جازما لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم .
فهذا " القسم الثاني " يفرق فيه بين المريد والفاعل ; بل يفرق بين إرادة وإرادة إذ الإرادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد . كما قال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 737 ] { nindex.php?page=hadith&LINKID=597009إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة فإن ذلك طاعة وخير وكذلك هو في عرف الناس كما قيل :
لأشكرنك معروفا هممت به إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إن لم يمضه قدر فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
فإن عملها كتبها الله له عشر حسنات لما مضى رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .
. فحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في الصحيحين وحديث ابن عباس في البخاري وفي حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري { أن منهم من يدخل الجنة } وثبت { أن منهم من يدخل النار } كما في صحيح مسلم في قصة الغلام الذي قتله الخضر وهذا يحقق ما روي من وجوه : أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم الله فيهم فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره .
وأما أئمة الضلال - الذين عليهم أوزار من أضلوه - ونحوهم فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من الفعل ; بقوله في حديث أبي كبشة " فهما في الوزر سواء " وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597012من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه } فإذا وجدت الإرادة الجازمة والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام ، والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة وفاعل [ ص: 740 ] السيئة التي تمضي لا يجزى بها إلا سيئة واحدة كما شهد به النص وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد : " الهم " همان : هم خطرات وهم إصرار . فهم الخطرات يكون من القادر فإنه لو كان همه إصرارا جازما وهو قادر لوقع الفعل . ومن هذا الباب هم " يوسف " حيث قال تعالى : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } الآية .
وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل : إنه كان هم إصرار لأنها فعلت مقدورها وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى { وهموا بما لم ينالوا } فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم كما ذمهم الله عليه ومثله يذم وإن لم يكن جازما كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافي الإيمان وبين ما لا ينافيه وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل لحديث أبي كبشة ولما في الحديث الصحيح { nindex.php?page=hadith&LINKID=9179إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه } وفي لفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=61441إنه أراد قتل صاحبه } . فهذه " الإرادة " هي الحرص وهي الإرادة الجازمة وقد وجد معها المقدور وهو القتال لكن عجز عن القتل وليس هذا من الهم الذي لا يكتب ولا يقال إنه استحق ذلك بمجرد قوله : لو أن لي ما لفلان [ ص: 741 ] لعملت مثل ما عمل فإن تمني الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم بل لا بد من أمر آخر وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء .
و " الإرادة التامة " قد ذكرنا أنه لا بد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك مع القدرة مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا : من اللمس والنظر والقبلة ويمتنع عن الفاحشة الكبرى ; ولهذا قال في حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة الصحيح { nindex.php?page=hadith&LINKID=11208العين تزني والأذن تزني واللسان يزني - إلى أن قال - والقلب يتمنى ويشتهي } أي يتمنى الوطء ويشتهيه ولم يقل " يريد " ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة ولا يستلزم وجود الفعل فلا يعاقب على ذلك ; وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة [ التي ] يصدقها الفرج .
وقد يكون مصرا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره فليس هذا بتائب مطلقا . ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان ويثاب إذا كان ذلك الترك لله وتعظيم شعائر الله واجتناب محارمه في ذلك الوقت ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة ولا هو مصر مطلقا .
ومما يبنى على هذا مسألة معروفة - بين أهل السنة وأكثر العلماء [ ص: 746 ] وبين بعض القدرية - وهي " توبة العاجز عن الفعل " كتوبة المجبوب عن الزنا وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة ونحوه من العجز ; فإنها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم وخالف في ذلك بعض القدرية ; بناء على أن العاجز عن الفعل لا يصح أن يثاب على تركه الفعل ; بل يعاقب على تركه وليس كذلك ; بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا ، وبينا أن الإرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه كالتائب القادر عليها سواء فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل كإصرار العاجز عن كمال الفعل . ومما يبنى على هذا " المسألة المشهورة في الطلاق " وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به فإنه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء .
وعند مالك في إحدى الروايتين يقع وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=89226إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } فقال المنازع : هذا المتجاوز عنه إنما هو حديث النفس والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس " . فقال المنازع لهم : قد قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=597017ما لم تكلم به أو تعمل به } فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي هي الكلام به [ ص: 747 ] والعمل به كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن ; فإنه لو كان حديث النفس إذا صار عزما ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به لكان خلاف النص لكن يقال : هذا في المأمور [ صاحب ] المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل إذا لم يتكلم ولم يعمل وأما الإرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجري مجرى التي أتى معها بكمال العمل بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الإشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك .
وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقا فليس كذلك ; بل إذا قيل : إن الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك يصح ذلك ; فإن المراد إن كان مقدورا مع الإرادة الجازمة وجب وجوده وإن كان ممتنعا فلا بد مع الإرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم . وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الإرادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب إذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا .
[ ص: 748 ] وحينئذ قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=597018إن الله تجاوز لأمتي } الحديث حق والمؤاخذة بالإرادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق ; ولكن طائفة من الناس قالوا : إن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ثم تنازعوا في العقاب عليها فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج ابن الجوزي يرون العقوبة على ذلك وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل . والقاضي بناها على أصله في " الإيمان " الذي اتبع فيه جهما والصالحي وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب ولو كذب بلسانه وسب الله ورسوله بلسانه وإن سب الله ورسوله إنما هو كفر في الظاهر وأن كلما كان كفرا في نفس الأمر فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل حتى إن الأئمة : nindex.php?page=showalam&ids=17277كوكيع بن الجراح nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في " الإيمان " بهذا القول ; بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون : هو تصديق القلب واللسان ; فإن هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة وإنما بدعوهم .
وقد بسط الكلام في " الإيمان " وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها . فيقدر ما لا وجود له [ ص: 749 ] وأصل جهم في " الإيمان " تضمن غلطا من وجوه : ( منها ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب : كحب الله وخشيته ونحو ذلك . و ( منها ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال . و ( منها ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك . وهذا كلامهم في الإرادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك ; فإن هذه الأمور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنها وإذا صارت إرادة جازمة وحبا وبغضا لزم وجود الفعل ووقوعه وحينئذ فليس لأحد [ أن ] يقدر وجودها مجردة . ثم يقول : ليس فيها إثم وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل . فإن الأمة مجمعة على أن الله يثيب على محبته ومحبة رسوله والحب فيه والبغض فيه ويعاقب على بغضه وبغض رسوله وبغض أوليائه وعلى محبة الأنداد من دونه وما يدخل في هذه المحبة من الإرادات [ ص: 750 ] والعزوم فإن المحبة سواء كانت نوعا من الإرادة أو نوعا آخر مستلزما للإرادة فلا بد معها من إرادة وعزم فلا يقال : هذا من حديث النفس المعفو عنه ; بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : { nindex.php?page=hadith&LINKID=8756أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله }
( أحدها أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها . ( الثاني أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وهذا من لوازم الأول .
و ( الثالث أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر . وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا فهي مستلزمة لذلك فإن من كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لا بد [ ص: 752 ] أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب إلى الله ورسوله ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله . ومن هذا الباب ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديثابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=59735المرء مع من أحب } وفي رواية { nindex.php?page=hadith&LINKID=59735الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم } أي ولما يعمل بأعمالهم فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=59735المرء مع من أحب } قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن يجعلني الله معهم وإن لم أعمل عملهم .
وهذا الحديث حق فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك وكونه معه هو على محبته إياه فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادرا عليها فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك وإن كانت موجودة . وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته مع العلم بالتضاد ; ولهذا قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } والموادة من أعمال القلوب . فإن الإيمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله وذلك يناقض موادة من حاد الله ورسوله وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم العزم والعقاب ; لأجل عدم الإيمان . فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب وبغض الله ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الله به رسوله فاستحق تاركه الذم والعقاب ، وأعظم الواجبات إيمان القلب فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب ; بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيا عنه كالفواحش والظلم ; فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان وإن كان يناقض كماله ; بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فالصلاة تضمنت شيئين : ( أحدهما نهيها عن الذنوب .
و ( الثاني تضمنها ذكر الله وهو أكبر الأمرين فما فيها من ذكر الله أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر و [ لبسط ] هذا موضع آخر .
[ ص: 754 ] و ( المقصود هنا أن المحبة التامة لله ورسوله تستلزم وجود محبوباته ; ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي { nindex.php?page=hadith&LINKID=35335من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان } " فإنه إذا كان حبه لله وبغضه لله وهما عمل قلبه . وعطاؤه لله ومنعه لله وهما عمل بدنه دل على كمال محبته لله و [ دل ] ذلك على كمال الإيمان ; وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله وذلك عبادة الله وحده لا شريك له والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية ولا بد لكل حي من حب وبغض فإذا كانت محبته لمن يحبه الله وبغضه لمن يبغضه الله دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس فإذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله . دل على كمال الإيمان باطنا وظاهرا .
بل قول القلب وعمله هو الأصل : مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة ومنه ما لا يقترن به ذلك إلا مع الفعل بالجوارح الظاهرة [ ص: 759 ] إذا كانت مقدورة وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام : ( أحدها ما هو حسنة وسيئة بنفسه . و ( ثانيها ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل وهو السيئة المقدورة كما تقدم . و ( ثالثها ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة كما تقدم .
" فالقسم الأول " : هو ما يتعلق بأصول الإيمان من التصديق والتكذيب والحب والبغض وتوابع ذلك ; فإن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب وعلو الدرجات وأسفل الدركات بما يكون في القلوب من هذه الأمور وإن لم يظهر على الجوارح : بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانا بغض القول والفعل لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } فأخبر أنهم لا بد أن يعرفوا في لحن القول . وأما " القسم الثاني " و " الثالث " فمظنة الأفعال التي لا تنافي أصول الإيمان مثل المعاصي الطبعية ; مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر .
وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . كما دل عليه الكتاب والسنة فمن صح إيمانه عفي له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار ; بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه ولهذا جاء : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597027نية المؤمن خير من عمله } هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في " كتاب الأمثال " من مراسيل ثابت البناني .
وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضعفها . فالله أعلم . فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها وتجري مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إلا العجز ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة وذلك لا يكون إلا قليلا ; ولهذا قال بعض السلف : قوة المؤمن في قلبه وضعفه في بدنه وقوة المنافق في بدنه وضعفه في قلبه . وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } الآية .
وهذه الآية وإن كان قد قال طائف من السلف إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عمر - إنها نسخت فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين يريدون به رفع الدلالة مطلقا وإن كان تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق وغير ذلك كما هو معروف في عرفهم وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك وزعم قوم : أن ذلك خبر والخبر لا ينسخ . ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي . كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي . والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597028إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . و " حقيقة الأمر " أن قوله سبحانه : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } لم يدل على المؤاخذة بذلك ; بل دل على المحاسبة به ولا [ ص: 763 ] يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب ; ولهذا قال : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب ولا أنه يغفر كل شيء أو يعذب على كل شيء مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة . ونحو ذلك . والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعا لأصل الإيمان وما كان منافيا له ويفرق أيضا بين ما كان مقدورا عليه فلم يفعل وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة .
وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في " المسألة " إنما وقع لكونهم رأوا عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنا للعزم وإن كان العجز مقارنا للإرادة امتنع وجود المراد لكن لا تكون تلك إرادة جازمة فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه وإن لم يوجد الفعل نفسه . والإنسان يجد من نفسه : أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله [ على ] السواء ولا عما يظهر على صفحات وجهه [ ص: 764 ] وفلتات لسانه . مثل بسط الوجه وتعبسه وإقباله على الشيء والإعراض عنه وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب كما يترتب عليها الحمد والثواب .
وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازما ولا نزاع في إطلاق الألفاظ ; فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول : ما قارن الفعل فهو قصد وما كان قبله فهو عزم . ومنهم من يجعل الجميع سواء وقد تنازعوا هل تسمى إرادة الله لما يفعله في المستقبل [ عزما ] وهو نزاع لفظي ; لكن ما عزم الإنسان عليه أن يفعله في المستقبل فلا بد حين فعله من تجدد إرادة غير العزم المتقدم وهي الإرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة وتنازعوا أيضا هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي ؟ وقد ذكروا أيضا في ذلك قولين : والأظهر أن القدرة مع الداعي التمام تستلزم وجود المقدور والإرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد . والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقا على كل عزم على فعل مستقبل وإن لم يقترن به فعل .
وأراد الآخر رفع العقاب [ ص: 765 ] مطلقا عن كل ما في النفس من الإرادات الجازمة ونحوها مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل . وكل من هذين انحراف عن الوسط . فإذا عرف أن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة إلا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب . وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادا إرادة جازمة ; بل هو الهم الذي وقع العفو عنه . وبه ائتلفت النصوص والأصول .
[ ص: 768 ] وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق فتارة يغلب هذا وتارة يغلب هذا . وقوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=597032إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها } كما في بعض ألفاظه في الصحيح هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين دون من كان مسلما في الظاهر وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالإسلام قديما وحديثا . وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الإيمان في أول الأمر فمن أظهر الإيمان وكان صادقا مجتنبا ما يضاده أو يضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به : دون ما ليس كذلك .
كما دل عليه لفظ الحديث . فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث وكذلك قوله : " من هم بحسنة " و " من هم بسيئة " إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها ; لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . [ ص: 769 ] وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات لله . كما قال تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } و { ابتغاء مرضاة الله } و { ابتغاء وجه ربه } وهذا للمؤمنين ; فإن الكافر وإن كان الله يطعمه بحسناته في الدنيا وقد يخفف عنه بها في الآخرة ; كما خفف عن أبي طالب لإحسانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف وقد جاء ذلك مقيدا في حديث آخر : إنه في المسلم الذي هو حسن الإسلام . والله سبحانه أعلم . والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .