[ ص: 26 ] فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه - الحمد لله . أصل هذه " المسألة " أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان والصبر والشكر والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن . فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله : كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم . والجزع والهلع والشرك والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك .
فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه . هذا هو طريق الله وسبيله ودينه الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وكانوا يقولون : من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلا ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلا وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع ; فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات .
وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع . فيعمل أعمالا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات .
فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر . يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل والعمل دون العلم ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة . وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافقا الشريعة .
فالسالك طريق " الفقر والتصوف والزهد والعبادة " إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة وإلا كان ضالا عن الطريق وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه . والسالك من " الفقه والعلم والنظر والكلام " إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق .
فهذا هو [ ص: 28 ] الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم .
ولا ريب أن لفظ " الفقر " في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله وفعل ما أمر به . وترك ما نهي عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك ; بل الفقر عندهم ضد الغنى .
و " الفقراء " هم الذين ذكرهم الله في قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } وفي قوله : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } وفي قوله : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } و " الغني " هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة أو الذي تجب عليه الزكاة أو ما يشبه ذلك ; لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها ; إذ من العصمة أن لا تقدر وصار المتأخرون كثيرا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد والزهد قد يكون مع الغنى وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير .
و " الزهد " المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع [ ص: 29 ] بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع .
وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ " الصوفي " ; لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفا أو الصف الأول أو صوفة بن بشر بن أد بن طانجة أو صوفة القفا ; فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ; لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه .
وآخرون قد يشهدون " الأمر " فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب [ ص: 31 ] لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون " القدر " فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين . فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه .
( والقسم الرابع شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ; ولا مع القدر الكوني .
وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك . وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام : ( أحدها أهل التقوى والصبر وهم الذين أنعم الله عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة .
( والثاني الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات ; لكن إذا أصيب أحدهم [ ص: 32 ] في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه .
( والثالث قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس .
وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .
فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحبوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا . كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق .
فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار .
وإذا كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق .
والكامل هو من كان لله أطوع وعلى ما يصيبه أصبر فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل . وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .
إذ من الناس من يصبر ولا يرحم : كأهل القوة والقسوة ومنهم من يرحم ولا يصبر : كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في صفة المتولي : ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لينا من غير ضعف فبصبره يقوى وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى .