وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة ؟ أو كان منهم من يقعد بالصفة ؟ ومنهم من يتسبب في القوت ؟ وما كان تسببهم . هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل ؟
وهل كان فيهم أحد من العشرة ؟ وهل كان في ذلك الزمان أحد ينذر لأهل الصفة ؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة ؟ أو كان لهم حاد ينشد الأشعار ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون ؟
وعن هذه الآية وهي قوله تعالى { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } هل هي مخصوصة بأهل الصفة ؟ أم هي [ ص: 38 ] عامة ؟ وهل الحديث الذي يرويه كثير من العامة ويقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله : لا الناس يعرفونه ولا الولي يعرف أنه ولي } [ صحيح ] ؟ وهل تخفى حالة الأولياء أو طريقتهم على أهل العلم أو غيرهم ؟ ولماذا سمي الولي وليا ; وما المراد بالولي ؟
وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة ؟ وما الفقراء الذين أوصى بهم في كلامه . وذكرهم سيد خلقه وخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته . هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا ؟
فأجاب : شيخ الإسلام : تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية - رضي الله عنه - بقلمه ما صورته : الحمد لله رب العالمين .
أما " الصفة " التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمالي المسجد بالمدينة النبوية كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه ; وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه [ ص: 39 ] صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومنعة جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة وكان المؤمنون السابقون بها صنفين : المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر .
وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم .
فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله ; لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل [ عنده ] منهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئا بعد شيء ; فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه .
والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه [ ص: 41 ] فيسلم خلق تارة ظاهرا وباطنا وتارة ظاهرا فقط ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء والأهلين والعزاب فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له . ويجيء ناس بعد ناس فكانوا تارة يقلون وتارة يكثرون فتارة يكونون عشرة أو أقل وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين .
وأما جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل : كانوا نحو أربعمائة من الصحابة وقد قيل : كانوا أكثر من ذلك ولم يعرف كل واحد منهم .
وقد جمع أسماءهم " nindex.php?page=showalam&ids=12067الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي " في " كتاب تاريخ أهل الصفة " جمع ذكر من بلغه أنه كان من " أهل الصفة " وكان معتنيا بذكر أخبار النساك والصوفية ; والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم ; وجمع أخبار زهاد السلف . وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة ; وكم بلغوا . وأخبار الصوفية المتأخرين بعد القرون الثلاثة . وجمع أيضا في الأبواب : مثل حقائق التفسير . ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه . ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ; ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال . وغير ذلك من الأبواب . وفيما جمعه فوائد كثيرة . ومنافع جليلة .
[ ص: 42 ] وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل . وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير . ويروي أحيانا أخبارا ضعيفة بل موضوعة . يعلم العلماء أنها كذب .
وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه .
وكان البيهقي إذا روى عنه يقول : حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه . وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعمد الكذب لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية ; فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني nindex.php?page=showalam&ids=14919والفضيل بن عياض وأمثالهما ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط . وضعف مثل nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار وفرقد السبخي ونحوهما .
وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأفعال والأحوال . فيه من الهدى والعلم شيء كثير .
وفيه - أحيانا - من الخطأ أشياء ; وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ . وبعضه باطل قطعا .
مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة . وذكر عنه بعض طائفة أنواعا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة . واستدلالات مناسبة . وبعضها من نوع الباطل واللغو .
[ ص: 43 ] فالذي جمعه ( الشيخ أبو عبد الرحمن ونحوه في " تاريخ أهل الصفة " وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة .
وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم . يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله . ويوجد - أحيانا - عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير .
ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس .
وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله ورسوله من الكسب وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله وكان أهل الصفة ضيوف [ ص: 45 ] الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق .
وأما " المسألة " فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث حرمها على المستغني عنها وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلا الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقا حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد : ناولني إياه .
وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتا }
. ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس ولا الإلحاف في المسألة بالكدية والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضول من الأموال يتركون لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب . بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر من مانعي الزكاة والحقوق الواجبة والمتعدين حدود الله تعالى في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم .
[ ص: 47 ] فصل وأما من قال : إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك . فهذا ضال غاو ; بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك فإن تاب وإلا قتل .
وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة وكان القتال منها في تسع مغاز : مثل بدر . وأحد . والخندق . وخيبر . وحنين .
وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا ثم عادوا يوم حنين ونصرهم الله ببدر وهم أذلة وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء وفي جميع المواطن كأن يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلوا مع الكفار قط وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان : ( قسم منافقون . وإن أظهروا الإسلام وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول كاستغناء الخضر عن متابعة موسى .
وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلا مطلقا أو في بعض صفات الكمال . وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم .
فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين : إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم . وموسى عليه السلام إنما بعث إلى [ ص: 49 ] قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباعه ; بل قال له : إني على علم من علم الله تعالى علمنيه الله لا تعلمه . وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه .
و ( القسم الثاني من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا ويظن أن دين الله الموافقة للقدر سواء كان في ذلك عبادة الله وحده لا شريك له أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله أو الإعراض عنهم والكفر بهم وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض وبين المتقين والفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان وأهل الجنة كأهل النار وأولياء الله كأعداء الله وربما جعلوا هذا من ( باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه " التوحيد والحقيقة " بناء على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون وأنه " الحقيقة الكونية " .
[ ص: 50 ] وهؤلاء يعبدون الله على حرف : فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالا لله ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته ويقولون : ما في الوجود غيره ولا سواه بمعنى أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع وقد يقولون : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } ويقولون : { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين أو يقولون : إنه هو أو إنه حل فيه .
وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
والإيمان بالرسل هو " الأصل الثاني " من أصلي الإسلام فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول الله إلى جميع العالمين وأنه يجب على جميع الخلق متابعته وأن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله والدين ما شرعه فهو كافر : مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته ; إما عموما وإما خصوصا . ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته .
[ ص: 53 ] ويحتجون بما يفترونه : أن أهل الصفة قاتلوه . وأنهم قالوا : نحن مع الله من كان الله معه كنا معه يريدون بذلك القدر و " الحقيقة الكونية " دون الأمر و " الحقيقة الدينية " ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بقلبه وهمته وتوجهه من ذوي الفقر ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم وكل هذا ضلال وباطل . وإن كان لأصحابه زهد وعبادة فهم في العباد ; مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن { nindex.php?page=hadith&LINKID=15146المرء على دين خليله } و { nindex.php?page=hadith&LINKID=59735المرء مع من أحب } هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرين بعضهم أولياء بعض .
إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر . وهي كذب واضح ; فإن " أهل الصفة " لم يكونوا إلا بالمدينة ; لم يكن بمكة أهل صفة ; والمعراج إنما كان من مكة ; كما قال سبحانه وتعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ومما يشبه هذا من بعض الوجوه : رواية بعضهم عن عمر أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما . وهذا من الإفك المختلق . ثم إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي . ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها " علم الأسرار والحقائق " [ ويريدون بذلك ] إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك . مثل ما تدعي النصيرية . [ ص: 55 ] والإسماعيلية ; والقرامطة والباطنية الثنوية والحاكمية وغيرهم من الضلالات المخالفة لدين الإسلام .
وما ينسبونه إلى nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ; أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة وكل هذا باطل .
فإنه لما كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته ومتابعته وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة وهذا كثير في أهل الضلال .
[ ص: 56 ] فصل وأما تفضيل " أهل الصفة " على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب موقوفا ومرفوعا وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى : مثل طلحة والزبير وسعد nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع nindex.php?page=showalam&ids=5أبي عبيدة بن الجراح - أمين هذه الأمة - ومع سعيد بن زيد . هم العشرة المشهود لهم بالجنة .
[ ص: 57 ] وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم وهؤلاء الذين فضلهم الله ورسوله فمنهم من هو من أهل الصفة وأكثرهم لم يكونوا من أهل الصفة والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص . فقد قيل : إنه أقام بالصفة مرة وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد بن معاذ nindex.php?page=showalam&ids=168وأسيد بن الحضير nindex.php?page=showalam&ids=4582وعباد بن بشر وأبي أيوب الأنصاري nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ونحوهم فلم يكونوا من " أهل الصفة " بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين ; لأن الأنصار كانوا في ديارهم . ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم .
وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والباقي يستمعون وقد روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم } وكان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى : يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون . [ وكان وجدهم على ذلك وكذلك إرادة قلوبهم ] وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك .
أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائلا أنشدهم :
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الطبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
فصل وأما قوله : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف ; مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه سواء كانوا من " أهل الصفة " أو غيرهم أمر الله نبيه بالصبر مع عباده الصالحين ; الذين يريدون وجهه وألا تعدو عيناه عنهم تريد زينة الحياة الدنيا . وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية .
[ ص: 60 ] وقد روي أن هاتين الآيتين نزلتا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة ; لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم .
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح فنهى الله نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفا أو فقيرا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم كصلاة الفجر والعصر ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم .
. [ ص: 62 ] و " الولي " مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد . فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته .
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات .
وذكر الله " الصنفين " في " سورة فاطر " و " الواقعة " و " الإنسان " و " المطففين " وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين .
هذا فيه قولان للعلماء . وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته . فيه أيضا قولان : للفقهاء والمتكلمين والصوفية .
والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد [ ص: 63 ] وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم .
لكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث : كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع : إن ولي الله هل يصير عدوا لله وبالعكس ؟
ومن أحبه الله ورضي عنه . هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ؟
ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما على القولين ؟ .
و " التحقيق " هو الجمع بين القولين . فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير . فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا لكن مع ذلك فإن الله تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته .
وقد يقال : إنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه وقد يقال إنه يواليه حينئذ على ذلك .
والدليل على ذلك : اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد [ ص: 64 ] فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال ; وإنما يقال كما قال الله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } وقال { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقال : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان إرثه المتقدم وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلا ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه ولو شهد أو حكم ارتد [ لوجب ] أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك .
وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضى بعدم إحكام ذلك الكفر وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع .
والكلام في هذه " المسألة " نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على " قاعدة الصفات الفعلية " وهي قاعدة كبيرة .
وعلى هذا يخرج جواب السائل فمن قال : إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره . ومن قال : قد يكون وليا لله من كان مؤمنا تقيا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل .
[ ص: 65 ] ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك فمن ثبتت ولايته بالنص . وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص .
وأما " خواص الناس " فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ; ويخطئون أخرى ; كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ; ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ; ولا يكتفوا بمجرد ذلك ; فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ; وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه .
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 66 ] وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه . وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى ومن قال هذا فهو كافر .
وقد قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمحدث ; ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ويحتمل والله أعلم أن [ لا ] يكون هذا الحرف متلوا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان [ في أمنية المحدث ] ; فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك وإن كان من أولياء الله المتقين فليس من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورا لهم ; بل [ ص: 67 ] ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة .
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشايخ ومن يعتقدون أنه من الأولياء .
فالرافضة تزعم أن " الاثني عشر " معصومون من الخطأ والذنب . ويرون هذا من أصول دينهم والغالية في المشايخ قد يقولون : إن الولي محفوظ والنبي معصوم . وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه ; فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب . وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية . فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم الله عليه في القرآن ; وجعل ذلك عبرة لنا ; لئلا [ ص: 68 ] نسلك سبيلهم ولهذا قال سيد ولد آدم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30388لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ; ورسوله } .
أما مستحقو الصدقات فقد ذكرهم الله في كتابه في قوله : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وفي قوله : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } . وإذا ذكر في القرآن اسم " الفقير " وحده و " المسكين " وحده - كقوله : { إطعام عشرة مساكين } - فهما شيء واحد وإذا ذكرا جميعا فهما صنفان . والمقصود بهما أهل الحاجة . وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة والموقوفة والمنذورة والموصى بها وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم .
وضد هؤلاء " الأغنياء " الذين تحرم عليهم الصدقة ثم هم [ ص: 69 ] " نوعان " : نوع تجب عليهم الزكاة وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء .
ونوع لا تجب عليه الزكاة .
وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة وهم الذين قال الله فيهم : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } . وقد لا يكون له فضل وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها .
وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء وإن لم يكن من أهل الزكاة ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم . ومن هنا قال الفقراء : " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا عنهم بالعبادات المالية : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فهذا هو " الفقير " في عرف الكتاب والسنة .
[ ص: 70 ] وقد يكون الفقراء سابقين وقد يكونون مقتصدين وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء وفي كلا الطائفتين : المؤمن الصديق والمنافق الزنديق .
وأما المستأخرون ف " الفقير " في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو " الصوفي " في عرفهم أيضا ثم منهم من يرجح مسمى " الصوفي " على مسمى " الفقير " لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمى الفقير لأنه عنده الذي قطع العلائق ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة وهذه منازعات لفظية اصطلاحية .
و " التحقيق " أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى الصديق والولي والصالح ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة فمن حيث دخل في الأسماء النبوية يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلا وليس بفضل أو مما يوالي عليه صاحبه غيره ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات فهذا لا بأس به بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات . وأما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين الله : من أنواع البدع والفجور . فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة .