وإن الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=90250يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام } هذا في حق ضعفاء المسلمين وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى وليس مختصا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة من السجاد والمرقعة والعكاز والألفاظ المنمقة ; بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة فهل الأمر على ما ذكر أم لا ؟ ؟ .
فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد وقد حكي في ذلك عن الإمام أحمد روايتان . وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين [ ص: 120 ] على الآخر .
وقال طائفة ثالثة ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى فأيهما كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة وهذا أصح الأقوال ; لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى .
وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام .
كحال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى والغنى أنفع لآخرين كما تكون الصحة لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره { إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقرته لأفسده ذلك . وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر . ولو أغنيته لأفسده ذلك . وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم . ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي إني بهم خبير بصير } .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=62123إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم } وفي الحديث الآخر { لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل [ ص: 121 ] ما قالوا . فذكر ذلك الفقراء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه وإن تأخر في الدخول كما أن السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم nindex.php?page=showalam&ids=5735عكاشة بن محصن وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم . وصلى الله وسلم على محمد .
[ ص: 122 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فصل قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل " الفقير الصابر أو الغني الشاكر " ؟ ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى أو بنوع من قلة المعرفة والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب " التمام لكتاب الروايتين والوجهين " لأبيه فيها عن أحمد روايتين .
( إحداهما أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحاق بن شاقلا ووالده nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى ونصرها هو .
و ( الثانية : أن الغني الشاكر أفضل اختاره جماعة منهم nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة .
و " القول الأول " يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه [ ص: 123 ] والصلاح من الصوفية والفقراء ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و " القول الثاني " يرجحه طائفة منهم . كأبي العباس بن عطاء وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعا وهو غلط .
وفي المسألة " قول ثالث " وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقا ولا هذا أفضل من هذا مطلقا بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيتهما ركبت .
وقد قال تعالى : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي وقد يكون هذا أفضل لقوم وفي بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم وفي بعض الأحوال فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه ; هذا هو الحكم العام .
وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر ; بل قد يكون هذا أفضل في حال ; وهذا في حال وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في ( شرح السنة للبغوي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى : { وإن من عبادي من [ ص: 124 ] لا يصلحه إلا الغنى ; ولو أفقرته لأفسده ذلك ; وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي ; إني بهم خبير بصير } .
فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر كما في الحديث الآخر { نعم المال الصالح للرجل الصالح } .
وكما أن الأقوال في المسألة " ثلاثة " فالناس " ثلاثة أصناف " : غني وهو من ملك ما يفضل عن حاجته .
وفقير ; وهو من لا يقدر على تمام كفايته .
وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته ; ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيا : كإبراهيم الخليل وأيوب وداود وسليمان nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان بن عفان nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن معاذ nindex.php?page=showalam&ids=168وأسيد بن الحضير nindex.php?page=showalam&ids=103وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري nindex.php?page=showalam&ids=63وعبادة بن الصامت ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .
[ ص: 125 ] وفيهم من كان فقيرا : كالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=1584وأبي ذر الغفاري ومصعب بن عمير وسلمان الفارسي ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى ; وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا صلى الله عليه وسلم . وأبي بكر وعمر .
وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده وفي الاصطفاف خلفه ; وغير ذلك . ومن اختص منهم بفضل عرف النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل كما قنت للقراء السبعين وكان يجلس مع أهل الصفة وكان أيضا لعثمان وطلحة والزبير وسعد بن معاذ nindex.php?page=showalam&ids=168وأسيد بن الحضير nindex.php?page=showalam&ids=4582وعباد بن بشر ونحوهم من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء . وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة وهي طريقة nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد وابن المبارك ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل . وغيرهم . في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء .
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء ويميل على الأغنياء مجتهدا في ذلك طالبا به رضا الله حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره ورجع عنه .
[ ص: 127 ] وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري nindex.php?page=showalam&ids=15889ورجاء بن حيوة nindex.php?page=showalam&ids=11863وأبي الزناد وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك ولهم في ذلك تأويل واجتهاد والأول هو العدل والقسط الذي دل عليه الكتاب والسنة .
وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=62123يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم - خمسمائة عام - وفي رواية بأربعين خريفا } فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين وكلاهما حق ; فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على [ ص: 128 ] قبضه وصرفه فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب فيسبق في الدخول وهو أحوج إلى سرعة الثواب لما فاته في الدنيا من الطيبات . والغني يحاسب فإن كان محسنا في غناه غير مسيء وهو فوقه رفعت درجته عليه بعد الدخول وإن كان مثله ساواه وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .
[ ص: 131 ] ومن هذا الباب إن الله خيره : بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا فاختار أن يكون عبدا رسولا ; لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده ; لا لأجل حظه وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه وإن كان مباحا .
كما قال : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له . وقد أعطي مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق والإنفاق في سبيل الله والاستعانة به على طاعة الله وعبادته وإلا فذات ملك المال لا ينفع بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على ما لم يصبر عليه غيره فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين وكان سابقا في حالي الفقر والغنى لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما كبعض أصحابه وأمته .
( المعنى الثاني أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط ; ولهذا [ ص: 132 ] صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء لأن المظنة فيهم أكثر .
فهذا هذا والله أعلم .
فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك . بل الفقر هنا عدم المال والمسكنة خضوع القلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة الفقر وشر فتنة الغنى وقال : بعض الصحابة ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر وقد قال صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=39844والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها } ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر والغالب على الأنصار الغنى والمهاجرون أفضل من الأنصار وكان في المهاجرين أغنياؤهم من أفضل المهاجرين مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه .