فصل
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة : حسية وعقلية وكشفية وسمعية ضرورية ونظرية وغير ذلك وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومناما كما كتبته في الجهاد .
أما العلم بالدين وكشفه
فالدين نوعان : أمور خبرية اعتقادية وأمور [ ص: 336 ] طلبية عملية .
فالأول كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويدخل في ذلك أخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب وأحوال الأولياء
والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك .
وقد يسمى هذا النوع أصول دين .
ويسمى العقد الأكبر ويسمى الجدال فيه بالعقل كلاما .
ويسمى عقائد واعتقادات ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية ويسمى علم المكاشفة .
( والثاني الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد فهو من جهة كونه علما واعتقادا أو خبرا صادقا أو كاذبا يدخل في القسم الأول ومن جهة كونه مأمورا به أو منهيا عنه يدخل في القسم الثاني مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنا يستحق الثواب وبعدمها يصير كافرا يحل دمه وماله فهي من القسم الثاني .
[ ص: 337 ] وقد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع أم لا تعلم إلا بالسمع ؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها ؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه
أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من
القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء وتزعم
الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض
الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته وأنه مستو على العرش .
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقا ; بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا .
ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين .
[ ص: 338 ] ويزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني .
وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها .
فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة باطنة أو ظاهرة عام أو خاص فقد تنازع فيه بنو
آدم تنازعا كثيرا .
وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك .
وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها ومن أصحابنا من يغلو فيها وخيار الأمور أوساطها .
فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيا وإثباتا فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه ومن الناس من يغلو فيما يعرفه فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه .
فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض وهم أكثر خلق الله تناقضا واختلافا وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيا .
[ ص: 339 ] وطائفة ممن تدعي السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوي وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفا وهي خيالات غير مطابقة وأوهام غير صادقة {
إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }