[ ص: 383 ] وسئل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم { زدني فيك تحيرا ؟ } وقال بعض العارفين أول المعرفة الحيرة وآخرها الحيرة .
قيل : من أين تقع الحيرة .
قيل : من معنيين : ( أحدهما كثرة اختلاف الأحوال عليه والآخر شدة الشر وحذر الإياس .
وقال الواسطي : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون وقال بعضهم : متى أصل إلى طريق الراجين وأنا مقيم في حيرة المتحيرين ؟ .
وقال محمد بن الفضل العارف : كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة .
وقال : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرا وقال الجنيد : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة وقال nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون : غاية العارفين التحير . وأنشد بعضهم :
قد تحيرت فيك خذ بيدي يا دليلا لمن تحير فيه
فبينوا لنا القول في ذلك بيانا شافيا ؟ .
[ ص: 384 ] فأجاب .
( الحمد لله هذا الكلام المذكور { زدني فيك تحيرا } من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد ; فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا وأنه سأل الزيادة في الحيرة وكلاهما باطل ; فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله : { رب زدني علما } وهذا يقتضي أنه كان عالما وأنه أمر بطلب المزيد من العلم ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } وقد قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرا .
وفي الجملة فالحيرة من جنس الجهل والضلال ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق علما بالله وبأمره وأكمل الخلق اهتداء في نفسه وهديا لغيره وأبعد الخلق عن الجهل والضلال .
ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان ولكن مدحها طائفة من الملاحدة : كصاحب " الفصوص " ابن عربي وأمثاله من الملاحدة الذين هم حيارى فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة وادعوا أنهم أكمل الخلق وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم وكانوا في [ ص: 386 ] ذلك .
كما يقال فيمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن الأنبياء أقدم فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر وهم عند المسلمين واليهود والنصارى [ ليسوا ] أفضل من الأنبياء فخرج هؤلاء عن العقل والدين : دين المسلمين واليهود والنصارى .
وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع .
ولهم في " وحدة الوجود والحلول والاتحاد " كلام من شر كلام أهل الإلحاد وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة : فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته فهذا لا يقتضي مدح الحيرة ; بل الحائر مأمور بطلب الهدى كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول : يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين .
فقد يريد بذلك معنى صحيحا مثل أن يريد أن الطالب السالك يكون حائرا قبل حصول المعرفة والهدى فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة وقوله آخرها الحيرة قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائرا وليس في ذلك مدح الحيرة ولكن يراد به أنه لا بد أن يعتري الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى .
كثرة اختلاف الأحوال و " الآخر " شدة الشر وحذر الإياس - إخبار عن سلوك معين ; فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة .
وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك وقول الآخر : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع فلا تطمعهم في الوصول فيستريحون ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون فيقال : هذا أيضا حال عارض لبعض السالكين ليس هذا أمرا لازما لكل من سلك طريق الله ولا هو أيضا غاية محمودة " ولكن بعض السالكين يعرض له هذا .
كما يذكر عن الشبلي أنه كان ينشد في هذا المعنى : [ ص: 388 ]
أظلت علينا منك يوما سحابة أضاءت لنا برقا وأبطأ رشاشها فلا غيمها يجلو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها
وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ; لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير وإقامة عذر المحب وأمور تشبه هذا .
و " الأسماء والصفات " قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا : الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ فقول القائل : لا تطمعهم في الوصول فيستريحون ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون .
هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع وهذا حال مذموم ؟ لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئا معينا ; بل تكون همته فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور .
فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
ولو تعلقت هي بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها .
ولفظ " الوصول " لفظ مجمل ; فإنه ما من سالك إلا وله غاية [ ص: 390 ] يصل إليها .
وإذا قيل : وصل إلى الله أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك .
ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى .
كبيرة من الكبائر ; بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه .
لكن من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان فإن الله يقول : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وعليه بإقامة الفرائض ظاهرا وباطنا ; ولزوم الصراط المستقيم مستعينا بالله ; متبرئا من الحول والقوة إلا به .
ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس ; بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له أن لا ييأس ; بل عليه أن يخاف عذابه .
قال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو [ ص: 391 ] حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد .
وأما قول محمد بن الفضل : إنه قال : العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة .
فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة ; فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه .
وقوله : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرا ; أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة ; فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد ; بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=29793لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } والخلق ما أوتوا من العلم إلا قليلا .
وما نقل عن " الجنيد " أنه قال : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة ; [ ص: 392 ] فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد .
وفيه نظر هل قاله ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود ; فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه ; لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل يقين ومعرفة وهدى وعلم ; فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا وهذا الكلام مردود على من قاله .
لكن إذا قيل : إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح .
فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب فهذا باطل قطعا .
وما ذكر عن nindex.php?page=showalam&ids=15874ذي النون " في هذا الباب مع أن nindex.php?page=showalam&ids=15874ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه وعزره الحارث بن مسكين وطلبه [ ص: 393 ] المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة وجعله الناس من الفلاسفة فما أدري هل قال هذا أم لا ؟ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول ; لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين .