فأجاب : - لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه .
وهو شر من قول اليهود والنصارى ; فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض .
وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت .
هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة .
وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم - كما هو الغالب على متكلمهم [ ص: 402 ] ومتفلسفهم - كانوا شرا من منافقي هذه الأمة حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق فهم شر ممن يظهر إيمانا ويبطن نفاقا .
والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية ; فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل ; لا يلتزمون لله أمرا ولا نهيا بحال ; بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل : كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه وإن كانوا مع ذلك مشركين وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي .
فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي بحيث لا يجب عليها شيء ولا يحرم عليها شيء فهؤلاء أكفر أهل الأرض وهم من جنس فرعون وذويه وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته ; ففرعون هو الذي قال لموسى : { وما رب العالمين } ثم كانت له آلهة يعبدها .
ومنهم من يستحل الخمر زعما منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة : فتباح لهم دون العامة .
وهذه " الشبهة " كانت قد وقعت لبعض الأولين فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك فإن nindex.php?page=showalam&ids=154قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } فلما ذكر ذلك nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر بن الخطاب اتفق هو nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على استحلالها قتلوا .
وقال عمر [ ص: 404 ] لقدامة : أخطأت استك الحفرة .
أما إنك لو اتقيت وأمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر ; وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب : أن الله سبحانه لما حرم الخمر - وكان تحريمها بعد وقعة أحد - قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ .
فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين .
وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس فقال الله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس .
فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك وإن نهى عن ذلك في وقت آخر ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر .
فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر .
ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع ; فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة .
أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة : كالخبز واللحم والنكاح .
فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن أضمر ذلك كان زنديقا منافقا لا يستتاب عند أكثر العلماء ; بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه .
ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش : كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن زعما منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرما في الشريعة .
وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق [ إلى محبة الخالق ] ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى وقد يستحلون الفاحشة الكبرى كما يستحلها من يقول : إن التلوط مباح بملك اليمين .
فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين وهم [ ص: 406 ] بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق .
ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم وغير ذلك من المحرمات التي يعلم أنها من المحرمات تحريما ظاهرا متواترا .
و ( الثاني : يجب عليه القضاء وهو المشهور عند أصحاب الشافعي بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الحجة : مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية كما جرى ذلك [ ص: 407 ] لبعض الصحابة أو مس ذكره أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ ثم تبين له وجوب ذلك وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره .
وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه ؟ على " ثلاثة أقوال " في مذهب أحمد وغيره .
قيل : يثبت مطلقا وقيل : لا يثبت مطلقا ; وقيل : يفرق بين الخطاب الناسخ ; والخطاب المبتدأ .
فغفر الله له } قال عقبة بن عمرو أنا سمعته - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك .
وكان نباشا .
فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر .
لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا .
فغفر الله له ذلك .
والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر - إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره - هو بين في عدم إيمانه [ ص: 410 ] بالله تعالى ومن تأول قوله : لئن قدر الله علي بمعنى قضى أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد .
وقال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا .
فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك فلو كان مقرا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له ; ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب وهو قد جعل تفريقه مغايرا لأن يقدر الرب .
قال : فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين .
فلا يكون الشرط هو الجزاء ; ولأنه لو كان مراده ذلك لقال : فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابا كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك : ولأن لفظ " قدر " بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة .
فإن اللفظ كان بقوله : { وقدر في السرد } أي اجعل ذلك بقدر ولا تزد ولا تنقص وقوله : { ومن قدر عليه رزقه } أي جعل رزقه قدر ما يغنيه [ ص: 411 ] من غير فضل إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش .
وأما " قدر " بمعنى قدر .
أي أراد تقدير الخير والشر فهو لم يقل : إن قدر علي ربي العذاب بل قال : لئن قدر علي ربي والتقدير يتناول النوعين فلا يصح أن يقال ; لئن قضى الله علي ; لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره ; ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعا من ذلك في ظنه .
ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالما بجميع ما يستحقه الله من الصفات وبتفصيل أنه القادر وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافرا .
فهذه عائشة أم المؤمنين : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يعلم الله كل ما يكتم الناس ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم نعم وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة وإن كان الإقرار [ بذلك ] [ ص: 413 ] بعد قيام الحجة من أصول الإيمان وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع .
فقد تبين أن هذا القول كفر ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها لا يحتاج إلى بسطها .
وأما قول القائل : هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فيقال : هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقا بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين ; لأنهم جميعا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لا يصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدا لله خاضعا له ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله فقد أنكر أن يكون الله إلهه .
[ ص: 414 ] وأما قولهم إنهم قد تجوهروا فقالوا : لا نبالي الآن ما عملنا ؟ .
فيقال لهم : ماذا تعنون بقولكم ؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية فهذا لو كان حقا لكان معناه أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور ولا تميل إلى المحظور وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة .
وإذا قال مثل هؤلاء : لا ينافي ما عملنا قيل لهم : الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى .
وأن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب .
وأما غيرهم فلا تجب له العصمة وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء : الجهال من الرافضة وغالية النساك وهذا مبسوط في موضعه .
وأما قولهم : حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة ; لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد ؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدا { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } { والله لا يحب الفساد } .
وأما قولهم : المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام .
فالكلمة الأولى : زندقة ونفاق والثانية كذب واختلاق فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام ; بل المراد منها الصلاح باطنا [ ص: 416 ] وظاهرا للخاصة والعامة في المعاش والمعاد ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام .
كما قال nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات وينضبط عن انتهاك المحرمات فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة .
وأما فوائد الأمر والنهي : فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب ; بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد وفي الخروج عنها كل شر وفساد .
وربما قال بعضهم : اعمل حتى يحصل لك حال فإذا حصل لك حال تصوفي [ سقطت عنك العبادة ] وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم وهذا كفر كما تقدم .
ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ [ ص: 418 ] بخلاف من تركها معتقدا كمال من فعلها حينئذ معظما لحاله فإن هذا ليس مذموما وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه أو يكون هذا من المقربين السابقين وهذا من المقتصدين أصحاب اليمين .
ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة - أمرا ونهيا - إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصا عاجزا محروما ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقا ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدا منافقا أو كافرا ملعنا .
وهؤلاء كثيرون جدا وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر .
فأما استدلالهم بقوله تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } فهي عليهم لا لهم قال الحسن البصري : إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت وقرأ قوله : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } ; وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين .
وأخبروا أنهم كانوا [ على ] ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين .
ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم : { وبالآخرة هم يوقنون } وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون وهو اليقين .
فقال : الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء وما زال أئمة الدين ومشايخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب .
وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار ; الإيمان والتقوى .
وهؤلاء هم " القدرية المشركية " الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة الذين روي فيهم : " إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم " ; لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق وربما أنكروا سابق العلم .
وأما " القدرية المشركية " فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب لكن [ وإن لم ينكروا ] عموم الإرادة والقدرة والخلق فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد ويكفرون بجميع الرسل والكتب ; فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالثواب ومنذرين من عصاهم بالعقاب .
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا .
[ ص: 422 ] و " أيضا " فإن موسى عليه السلام كان مؤمنا بالقدر وعالما به بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضا مؤمنين بالقدر فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر وأن ذلك يدفع الملام مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك .
و " أيضا " فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى .
وقال : إني كنت شاهدا للإرادة والقدر وليس الأمر كذلك .
بل بين له أسبابا شرعية تبيح له ما فعل .
كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وأما " الوجه الثاني " : فإن من هؤلاء من يظن : أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقا وإما من بعض الوجوه على النبي زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات ; بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر .
فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام : أن رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 423 ] لجميع الناس : عربهم وعجمهم وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة ; بل عامة الثقلين الجن والإنس وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين .
وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته .
قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق ; لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره بأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه .
بل قد ثبت بل بالأحاديث الصحيحة { أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم } فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء .
فكيف بمن دونهم ؟ بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى .
[ ص: 425 ] ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل : كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به وما علمنا أنه كذب رددناه وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه كما روى البخاري في صحيحه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68431إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم .
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فيما فضله الله به على الأنبياء قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597178كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة } فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته ولا استغناء عن رسالته كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته [ ص: 426 ] مستغنيا عنه بما علمه الله .
وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد : إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق : الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته فهو كافر باتفاق المسلمين .
ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا .
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة ; ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى ولم يختلفا حينئذ .
ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى لما وافقه .
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان قد يكون أفضل من الأول .
مثل شخصين : دخلا إلى بيت شخص وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله إما بإذن لفظي أو غيره فيتصرف .
وذلك مباح في الشريعة والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف وخرق السفينة كان من هذا الباب فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة إذا علموا ذلك ; لئلا يأخذها خير من انتزاعها منهم .
[ ص: 427 ] ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها .
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح ; لأنه كان مأذونا فيه عرفا والإذن العرفي كالإذن اللفظي ; ولهذا { بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظا } ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرا قليلا إلى بيته قام بجميع أهل المسجد لما علم من طيب نفس أبي طلحة وذلك لما يجعله الله من البركة .
وكذلك حديث جابر .
وقد ثبت أن لحاما دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه ; لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال ; فلهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال : " إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم " .
وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم وقد بين الخضر : أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع ; وإن كان جائعا .
ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرا فيشترك فيها الناس ومنه ما يكون خفيا عن بعضهم ظاهرا لبعضهم على الوجه المعتاد ومنه ما يكون خفيا يعرف بطريق الكشف وقصة الخضر من هذا الباب .
وذلك يقع كثيرا في أمتنا .
مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن .
وأمثال ذلك .
فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى [ ص: 429 ] فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها والرأي والرواية وليس شيء معصوما على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول ; ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقي عن الرسول كل شيء ; مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر ; وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه ; حتى يرده إلى الصواب .
كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية ; ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي قتال مانعي الزكاة وغير ذلك .
وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع .
والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق .
فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشايخ الصالحين [ يرى أنه ] يكون الصواب مع ذلك وغيره قد خالف [ ص: 431 ] الشرع وإنما خالف ما يظنه هو الشرع وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئا .
وأما " الشرع المبدل " : فمثل الأحاديث الموضوعة والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم فهذا يحرم أيضا .
وهذا من مثار النزاع فإن كثيرا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين وتقليد متبوعه ; والتزام حكم حاكمه باطنا وظاهرا ويرى خروجه عن ذلك خروجا عن الشريعة المحمدية وهذا جهل منه وظلم ; بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق .
كما أن كثيرا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه وهو في هذا نظير ذلك .
وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة لما يظنه معارضا لهما إما لما يسميه هذا ذوقا ووجدا ومكاشفات ومخاطبات وإما لما يسميه هذا قياسا ورأيا وعقليات وقواطع وكل ذلك من شعب النفاق بل يجب على كل أحد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به وطاعته في جميع ما أمر به وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال ولا بآراء الرجال وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال .
[ ص: 432 ] وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غير هذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال .
والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه ; من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة وفي جميع الأحوال .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
والحمد لله وحده وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم .