[ ص: 542 ] سئل شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية - رحمه الله - عما أحدثه الفقراء المجردون والمطوعون من صحبة الشباب ومؤاخاة النسوان والماجريات وحط رءوسهم بين يدي بعضهم بعضا وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق ومن جنى يشال تحت رجليه ويضرب بغير حق ووقوفهم مكشوفي الرءوس منحنين كالراكعين ووضع النعال على رءوسهم ولباسهم الصوف والرقع والسجادة والسبحة وأكل الحشيشة .
وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم ويطلبوا منه الصحبة هل يجوز ذلك ؟ أو نقل عن الصحابة ؟
فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين وعند اليهود والنصارى وغيرهم فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم بعد قوم لوط : تحريم الفاحشة اللوطية ولهذا بين الله في كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين وقد عذب الله [ ص: 543 ] المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدا من الأمم حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم فجعل عاليها سافلها وأتبعهم بالحجارة من السماء .
ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التي فيها القتل : يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة .
كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمي والغامدية وغيرهم ورجم بعده خلفاؤه الراشدون .
ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعا ; لكن تنوعوا في صفة القتل : فبعضهم قال : يرجم وبعضهم قال : يرمى من أعلى جدار في القرية ويتبع بالحجارة وبعضهم قال : يحرق بالنار ; ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين حرين كانا أو مملوكين أو كان أحدهما مملوكا للآخر وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد .
وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنكسة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التي تزكى بها النفوس فليس هذا من دين المسلمين ولا اليهود ولا النصارى .
وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله .
[ ص: 545 ] وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه ساداتهم وكبراؤهم زيادات من الفواحش التي لا ترضاها القرود ; فإنه قد ثبت في صحيح البخاري { أن أبا عمران رأى في الجاهلية قردا زنى بقردة فاجتمعت عليه القرود فرجمته } .
ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود حتى الطيور .
فلو كانت صحبة " المردان " المذكورة خالية عن الفعل المحرم فهي مظنة لذلك وسبب له ; ولهذا كان المشايخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك .
كما قال Multitarajem.php?tid=16782,16783فتح الموصلي : أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهاني عند مفارقتي إياه عن صحبة الأحداث .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=17117معروف الكرخي : كانوا ينهون عن ذلك .
وقال بعض التابعين : ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه بأخوف مني عليه من حدث يجلس إليه .
وقال سفيان الثوري وبشر الحافي : إن مع المرأة شيطانا ومع الحدث شيطانين .
وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث .
وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك .
وتاب منهم من تداركه الله برحمته .
ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله .
{ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } ومن استحل ذلك أو [ ص: 546 ] اتخذه دينا كان ضالا مضاهيا للمشركين والنصارى ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيا أو فاسقا .
فإن كان الشخصان قد اختصما نظر أمرهما فإن تبين ظلم أحدهما كان المظلوم بالخيار بين الاستيفاء والعفو والعفو أفضل فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه أو يلطمه كما فعل به عند جماهير السلف وكثير من الأئمة وبذلك جاءت السنة .
وقد قيل : إنه يؤدب ولا قصاص في ذلك .
وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله أو على غير الظالم .
فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه فله أن يقول له مثل ذلك فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه ; لأنه لم يظلمه .
وإن افترى عليه كذبا لم يكن له أن يفتري عليه كذبا ; لأن الكذب حرام لحق الله .
كما قال كثير من [ ص: 548 ] العلماء في القصاص في البدن : أنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل .
فهذا أصح قولي العلماء إلا أن يكون الفعل محرما لحق الله كفعل الفاحشة أو تجريعه الخمر فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك .
وإذا اعترف الظالم بظلمه وطلب من المظلوم أن يعفو عنه ويستغفر الله له فهذا حسن مشروع .
وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصي بحسب ذنبه تعزيرا يليق بمثله أن يفعله بمثله مثل هجره مدة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون : يسوسون الناس في دينهم ودنياهم ثم بعد ذلك تفرقت الأمور فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين .
وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها .
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم .
وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة كما كان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينفي من شرب الخمر .
وكما نفي نصر بن حجاج إلى البصرة لخوف فتنة النساء به وقد مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي في الزنا ونفي المخنث وأمر بعض المشايخ للمسيء بالسفر هذا أصله .
ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب ; فإن هذا يبقى كذبا وظلما وأكلا للمال بالباطل ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفا في طعام يأكلونه ; بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله .
والذي ينبغي أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه وإما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام ودعوة فهذا بدعة .
فما زال الناس يتوبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير هذه البدعة .
[ ص: 554 ] وأما الشكر الذي فيه إخراج شيء من ماله : كملبوس أو غيره شكرا لله على ما أنعم به إما من توبة وإما إصلاح ونحو ذلك .
فهو حسن مشروع ; فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه : أعطاه ثوبه الذي كان عليه واستعار ثوبا ذهب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن تعيين اللباس وغيره في الشكر بدعة أيضا .
فإن فعل ذلك أحيانا فهو حسن فلا يجعل واجبا أو مستحبا إلا ما جعله الله ورسوله واجبا أو مستحبا ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله .
فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرم الله .
وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير ; فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله والمؤدب له ممن له أهلية ذلك فهو حق .
وأما كشف الرءوس والانحناء فليس من السنة .
إنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك والجاهلية والمخلوق لا يسأل كشف رأس ولا ركوع له .
وإنما يركع لله في الصلاة وكشف الرءوس لله في الإحرام .
وأما " لباس الصوف " فقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة الصوف في السفر ; ولهذا قال الأوزاعي : لباس الصوف في السفر سنة وفي الحضر بدعة .
[ ص: 555 ] ومعنى هذا أن المداومة عليه في الحضر [ بدعة ] كما روينا عن nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين : أنه بلغه أن أقواما يتحرون لباس الصوف .
قال : أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف فلبسوه لذلك وهدي نبينا أحب إلينا من هدي غيره .
فهذا جمع فسادين : أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح وهذا مخالف للزهد .
وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين ولا في الدنيا .