[ ص: 557 ] ما تقول السادة الأعلام أئمة الإسلام ورثة الأنبياء عليهم السلام - رضي الله عنهم وأرضاهم في صفة " سماع الصالحين " ما هو ؟ وهل سماع القصائد الملحنة بالآلات المطربة هو من القرب والطاعات .
أم لا ؟ وهل هو مباح أم لا ؟
فأجاب : شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية - رضي الله عنه - الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أصل هذه " المسألة " أن يفرق بين السماع الذي ينتفع به في الدين وبين ما يرخص فيه رفعا للحرج بين سماع المتقربين وبين سماع المتلعبين .
فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة [ ص: 558 ] نفوسهم - فهو سماع آيات الله تعالى وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم وأهل المعرفة .
وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر والعشاءين وغير ذلك .
وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى : [ ص: 560 ] يا أبا موسى ; ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون .
وهذا " السماع " له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الزكية يطول شرحها ووصفها وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد وهذا مذكور في القرآن .
وهذه الصفات موجودة في الصحابة ووجدت بعدهم آثار ثلاثة : الاضطراب والصراخ والإغماء والموت في التابعين .
و " بالجملة " فهذا السماع هو أصل الإيمان ; فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين ليبلغهم رسالات ربهم فمن سمع ما بلغه الرسول فآمن به واتبعه اهتدى وأفلح ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي .
وأما " سماع المكاء والتصدية " وهو التصفيق بالأيدي والمكاء مثل الصفير ونحوه فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد والتصويت بالفم قربة ودينا .
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه قط ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم حضر ذلك فقد كذب [ ص: 563 ] عليه باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسنته .
والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي في " مسألة السماع " و " في صفة التصوف " ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي صاحب عوارف المعارف { أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي :
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي
وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه فقال له معاوية : ما أحسن لهوكم فقال له : مهلا يا معاوية ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب } " فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن .
[ ص: 564 ] وهو يشبه رواية من روى : " أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار لما انكسر المسلمون يوم حنين أو غير يوم حنين وأنهم قالوا نحن مع الله من كان الله معه كنا معه " ومن روى : { أن صبيحة المعراج وجد أهل الصفة يتحدثون بسر كان الله أمر نبيه أن يكتمه فقال لهم : من أين لكم هذا ؟ قالوا : الله علمنا إياه فقال : يا رب ألم تأمرني ألا أفشيه ؟ فقال : أمرتك أنت ألا تفشيه ولكني أنا أخبرتهم به } ونحو هذه الأحاديث التي يرويها طوائف منتسبون إلى الدين مع فرط جهلهم بدين الإسلام فيبنون عليها من النفاق والبدع ما يناسبها .
تارة يسقطون التوسط بالرسول وأنهم يصلون إلى الله تعالى من غير طريق الرسل مطلقا .
فهذا أعظم من كفر اليهود والنصارى ; فإن أولئك أسقطوا وساطة رسول واحد ولم يسقطوا وساطة الرسل مطلقا .
وهؤلاء إذا أسقطوا وساطة الرسل مطلقا عن أنفسهم كان هذا أغلظ من كفر أولئك ; لكنهم يقولون : لا تسقط الوساطة إلا عن الخاصة لا عن العامة فيكونون أكفر من أهل الكتاب من جهة إسقاط السفارة مطلقا عنهم في بعض الأحوال وأهل الكتاب أكفر من جهة إسقاط سفارة محمد مطلقا بل أهل الكتاب الذين يقولون إنه رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب خير من هؤلاء فإن أولئك أخرجوا عن رسالته من له كتاب وهؤلاء يخرجون عن رسالته من لا يبقى معه إلا خيالات [ ص: 565 ] ووساوس وظنون ألقاها إليه الشيطان مع ظنه أنه من خواص أولياء الله وهو من أشد أعداء الله وتارة يجعلوا هذه الآثار المختلقة حجة فيما يفترونه من أمور تخالف دين الإسلام ويدعون أنها من أسرار الخواص كما يفعل الملاحدة والقرامطة والباطنية وتارة يجعلونها حجة في الإعراض عن كتاب الله وسنة نبيه إلى ما ابتدعوه من اتخاذ دينهم لهوا ولعبا .
كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لخاصي ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح .
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال [ ص: 566 ] المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم .
وإنما النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك طلبا للأفضل والأكمل كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا يسمعه فهذا حسن ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك .
اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد .
و " بالجملة " فهذه ( مسألة السماع تكلم كثير من المتأخرين في السماع : هل هو محظور ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب والتشويق إلى المحبوب [ ص: 568 ] والتخويف من المرهوب والتحزين على فوات المطلوب فتستنزل به الرحمة وتستجلب به النعمة وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلى به مشاهد أهل العرفان حتى يقول بعضهم : إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه ; حتى يجعلونه قوتا للقلوب وغذاء للأرواح وحاديا للنفوس يحدوها إلى السير إلى الله ويحثها على الإقبال عليه .
ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات ; بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية وإذا سمعوا سماع المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب وتعاطت المشروب .
فمن تكلم في هذا : هل هو مكروه أو مباح ؟ وشبهه بما كان النساء يغنين به في الأعياد والأفراح لم يكن قد اهتدى إلى الفرق بين طريق أهل الخسارة والفلاح ومن تكلم في هذا : هل هو من الدين ؟ ومن سماع المتقين ؟ ومن أحوال المقربين ؟ والمقتصدين ؟ ومن أعمال أهل اليقين ؟ ومن طريق المحبين المحبوبين ؟ ومن أفعال السالكين إلى رب العالمين ؟ كان كلامه فيه من وراء وراء بمنزلة من سئل عن علم الكلام المختلف فيه : هل هو محمود ؟ أو مذموم ؟ فأخذ [ ص: 569 ] يتكلم في جنس الكلام وانقسامه : إلى الاسم .
والفعل والحرف أو يتكلم في مدح الصمت أو في أن الله أباح الكلام والنطق وأمثال ذلك مما لا يمس المحل المشتبه المتنازع فيه .
فإذا عرف هذا : فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه .
فقال : الشافعي - رضي الله عنه - خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه " التغبير " يصدون به الناس عن القرآن .
وقال يزيد بن هارون : ما يغبر إلا الفاسق ومتى كان التغبير .
وسئل عنه الإمام أحمد فقال : أكرهه هو محدث .
قيل : أنجلس معهم ؟ قال : لا وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض ولا nindex.php?page=showalam&ids=17117معروف الكرخي ولا nindex.php?page=showalam&ids=12032أبو سليمان الداراني ولا nindex.php?page=showalam&ids=12208أحمد بن أبي الحواري والسري السقطي وأمثالهم . والذين حضروه من [ ص: 570 ] الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم .
وأعيان المشايخ عابوا أهله كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو البيان وغيرهما من المشايخ .
وما ذكره الشافعي - رضي الله عنه - من أنه من إحداث الزنادقة كلام إمام خبير بأصول الإسلام فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة : كابن الراوندي والفارابي nindex.php?page=showalam&ids=13251وابن سينا وأمثالهم : كما ذكر nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي - في مسألة السماع - عن ابن الراوندي .
قال : إنه اختلف الفقهاء في السماع : فأباحه قوم وكرهه قوم .
وأنا أوجبه - أو قال - وأنا آمر به .
فخالف إجماع العلماء في الأمر به .
و " الفارابي " كان بارعا في الغناء الذي يسمونه " الموسيقا " وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء وحكايته مع Multitarajem.php?tid=13072,13073,13074,13075ابن حمدان مشهورة .
لما ضرب فأبكاهم ثم أضحكهم ثم نومهم ثم خرج .
و " nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا " ذكر في إشاراته في " مقامات العارفين " في الترغيب فيه وفي عشق الصور ما يناسب طريقة أسلافه الفلاسفة والصابئين المشركين الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام كأرسطو وشيعته من اليونان - ومن اتبعه كبرقلس وثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وكان أرسطو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني [ ص: 571 ] الذي تؤرخ له اليهود والنصارى وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة .
وأما " Multitarajem.php?tid=15872,15873ذو القرنين " المذكور في القرآن الذي بنى " السد " فكان قبل هؤلاء بزمن طويل وأما الإسكندر الذي وزر له أرسطو : فإنه إنما بلغ بلاد خراسان ونحوها في دولة الفرس لم يصل إلى السد وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
و " nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا " أحدث فلسفة ركبها من كلام سلفه اليونان ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية ونحوهم .
وسلك طريق الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية ومزجه بشيء من كلام الصوفية وحقيقته تعود إلى كلام إخوانه الإسماعيلية القرامطة الباطنية ; فإن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية : اتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمنه ودينهم دين أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى .
وكان الفارابي قد حذق في حروف اليونان التي هي تعاليم أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المشائين وفي أصواتهم صناعة الغناء ففي هؤلاء الطوائف من يرغب فيه ويجعله مما تزكو به النفوس وترتاض به وتهذب به الأخلاق .
[ ص: 572 ] وأما " الحنفاء " أهل ملة إبراهيم الخليل الذي جعله الله إماما وأهل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء ليس فيهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه .
وهؤلاء هم أهل القرآن والإيمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والإخلاص والمحبة له والتوكل عليه والخشية له والإنابة إليه .
ولكن قد حضره أقوام من أهل الإرادة وممن له نصيب من المحبة لما فيه من التحريك لهم ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته كما دخل قوم من الفقهاء أهل الإيمان بما جاء به الرسول في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنا منهم أنه حق موافق ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته فإن القيام بحقائق الدين علما وحالا وقولا وعملا ومعرفة وذوقا وخبرة لا يستقل بها أكثر الناس ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة ; فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
قال nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلب محمد فوجد قلبه خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم ; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .
ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب [ ص: 574 ] للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر للجسد يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس .
ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز كما يجد شارب الخمر ; بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر حتى يقتل بعضهم بعضا من غير مس بيد بل بما يقترن بهم من الشياطين ; فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع : إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربيا لا يحسن أن يتكلم بذلك بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم .
وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى وهذا يعرفه أهل المكاشفة " شهودا وعيانا " .
وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط فإن الشياطين تلابس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه حتى إن المصروع يضرب ضربا عظيما وهو لا يحس بذلك ولا [ ص: 575 ] يؤثر في جلده فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كما يلبس الشيطان المصروع .
وبأرض الهند والمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم : المصلى فإنه يصلى النار كما يصلى هؤلاء وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء ويقف على رأس الزج ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء وهم من الزط الذين لا خلاق لهم والجن تخطف كثيرا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس وتطير بهم في الهواء وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشايخ إذا حصل له وجد سماعي وعند سماع المكاء والتصدية منهم من يصعد في الهواء ويقف على زج الرمح ويدخل النار ويأخذ الحديد المحمى بالنار ثم يضعه على بدنه .
وأنواع من هذا الجنس ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة ولا عند الذكر ولا عند قراءة القرآن ; لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية تطرد الشياطين وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين .
} ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر والسلف يسمونه تغبيرا ; لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود وهو ما يغبر صوت الإنسان على التلحين فقد يضم إلى صوت الإنسان .
إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد وإما الضرب باليد على أختها أو غيرها على دف أو طبل كناقوس النصارى والنفخ في صفارة كبوق اليهود .
فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته .
ولم يذكر أحد من [ ص: 577 ] أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا .
إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين بخلاف الأوتار ونحوها ; فإنهم لم يذكروا فيها نزاعا .
وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له فلم يذكروا نزاعا لا في هذا ولا في هذا بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري شيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذلك مصنفا معروفا .
وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي - أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة وما ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم الشقيري وغيرهما : عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط . وإنما وقعت الشبهة فيه لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم ; بل قال إسحاق بن عيسى الطباع : سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل المدينة من طائفة في [ ص: 578 ] المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه وإنما نبهت على هذا ; لأن فيما جمعه nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثار يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق .
وكان " الشيخ أبو عبد الرحمن " - رحمه الله - فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده ; فلهذا يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول ما ينتفع به في الدين .
ويوجد فيها من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له .
وبعض الناس توقف في روايته .
حتى أن البيهقي كان إذا روى عنه يقول : حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه .
وأكثر الحكايات التي يرويها أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة عنه فإنه كان أجمع شيوخه لكلام الصوفية .
و " nindex.php?page=showalam&ids=16977محمد بن طاهر " له فضيلة جيدة من معرفة الحديث ورجاله وهو من حفاظ وقته لكن كثيرا من المتأخرين : أهل الحديث وأهل الزهد وأهل الفقه وغيرهم إذا صنفوا في باب ذكروا ما روي فيه من غث وسمين ولم يميزوا ذلك كما يوجد ممن يصنف في الأبواب مثل المصنفين : في فضائل الشهور والأوقات وفضائل الأعمال [ ص: 579 ] والعبادات وفضائل الأشخاص وغير ذلك من الأبواب مثل ما صنف بعضهم في فضائل رجب وغيرهم في فضائل صلوات الأيام والليالي وصلاة يوم الأحد وصلاة يوم الاثنين وصلاة يوم الثلاثاء وصلاة أول جمعة في رجب وألفية رجب وأول رجب وألفية نصف شعبان وإحياء ليلتي العيدين وصلاة يوم عاشوراء .
وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح وقد رواه أبو داود والترمذي .
ومع هذا فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ; بل أحمد ضعف الحديث ولم يستحب هذه الصلوات .
وأما ابن المبارك فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية وهذا يخالف الأصول فلا يجوز أن تثبت بمثل هذا الحديث .
ومن تدبر الأصول علم أنه موضوع .
وأمثال ذلك ; فإنها كلها أحاديث موضوعة مكذوبة باتفاق أهل المعرفة مع أنها توجد في مثل كتاب أبي طالب وكتاب أبي حامد وكتاب الشيخ عبد القادر ; وتوجد في مثل أمالي أبي القاسم بن عساكر وفيما صنفه عبد العزيز الكناني وأبو علي بن البنا وأبو الفضل بن ناصر وغيرهم . وكذلك [ ص: 580 ] أبو الفرج بن الجوزي : يذكر مثل هذا في فضائل الشهور ويذكر في الموضوعات أنه كذب موضوع .
والذين جمعوا الأحاديث في " الزهد والرقائق " يذكرون ما روي في هذا الباب ومن أجل ما صنف في ذلك وأندره " كتاب الزهد " لعبد الله بن المبارك . وفيه أحاديث واهية كذلك " كتاب الزهد " nindex.php?page=showalam&ids=17259لهناد بن السري ولأسد بن موسى وغيرهما .
وأجود ما صنف في ذلك : " الزهد " للإمام أحمد لكنه مكتوب على الأسماء وزهد ابن المبارك على الأبواب .
وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء والصحابة والتابعين .
ثم إن المتأخرين على صنفين : منهم من ذكر زهد المتقدمين والمتأخرين . nindex.php?page=showalam&ids=12181كأبي نعيم في الحلية وأبي الفرج بن الجوزي في " صفة الصفوة " .
ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين من حين حدث اسم الصوفية كما فعل nindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي في " طبقات الصوفية " وصاحبه أبو القاسم القشيري في الرسالة ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء بمجردها مثل nindex.php?page=showalam&ids=13127ابن خميس وأمثاله فيذكرون حكايات مرسلة بعضها صحيح وبعضها باطل . [ ص: 581 ] مثل ذكرهم : أن الحسن صحب عليا .
وقد اتفق أهل المعرفة على أن " الحسن البصري " لم يلق عليا ولا أخذ عنه شيئا وإنما أخذ عن أصحابه : nindex.php?page=showalam&ids=13669كالأحنف بن قيس وقيس بن معاذ وغيرهما .
وكذلك حكاياتهم : أن الشافعي وأحمد اجتمعا لشيبان الراعي وسألاه عن سجود السهو وكذلك اتفق أهل المعرفة على أن الشافعي وأحمد لم يلقيا شيبان الراعي بل ولا أدركاه .
وقد ذكر أبو عبد الرحمن في " حقائق التفسير " عن جعفر بن محمد وأمثاله من الأقوال المأثورة ما يعلم أهل المعرفة أنه كذب على جعفر بن محمد فإن جعفرا كذب عليه ما لم يكذب على أحد ; لأنه كان فيه من العلم والدين ما ميزه الله به وكان هو وأبوه - أبو جعفر - وجده - nindex.php?page=showalam&ids=16600علي بن الحسين - من أعيان الأئمة علما ودينا ولم يجئ بعد جعفر مثله [ وفي أهل البيت ] .
فصار كثير من أهل الزندقة والبدع ينسب مقالته إليه حتى أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ينسبونها إليه .
وهذه الرسائل صنفت بعد موته بأكثر من مائتي سنة صنفت عند ظهور مذهب الإسماعيلية العبيديين الذين بنوا القاهرة وصنفت على مذهبهم الذي ركبوه من قول الفلاسفة اليونان ومجوس الفرس والشيعة من أهل القبلة ; ولهذا قال العلماء : إن ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض .
[ ص: 582 ] ونسبوا إلى جعفر أنه تكلم في تقدم المعرفة عن حوادث الكون : مثل اختلاج الأعضاء والرعود والبروق والهفت وغير ذلك مما نزه الله جعفرا وأئمة أهل بيته عن الكلام فيه .
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
و ( المقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات : ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وضعيفه كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات والنظريات وكذلك في الأذواق والمواجيد والمكاشفات والمخاطبات فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة فيها حق وباطل ولا بد من التمييز في هذا وهذا .
وجماع ذلك أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه وما كان عليه أصحابه فهو حق وما خالف ذلك فهو باطل .
وقد تكلمنا على كلام المشايخ في السماع وما ذكره القشيري في رسالته هو وغيره عنهم وشرحنا ذلك كلمة كلمة لكن هذا الموضع لا يتسع لذلك .
وجماع الأمر في ذلك أنه إذا كان الكلام في السماع وغيره هل هو طاعة وقربة ؟ فلا بد من دليل شرعي يدل على ذلك وإذا كان الكلام : هل هو محرم ؟ أو غير محرم ؟ فلا بد من دليل شرعي يدل على ذلك .
إذ ليس الحرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله والله سبحانه وتعالى ذم المشركين على أنهم ابتدعوا دينا لم يشرعه الله لهم وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى .
وكثير من الناس يفعل في السماع وغيره : ما هو من جنس الفواحش المحرمة وما يدعو إليها وزعمهم أن ذلك يصلح القلوب فهو مما أمر الله به ; فهؤلاء لهم نصيب من معنى هذه الآية .
[ ص: 585 ] وجماع الدين أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع ولا نعبده بالبدع كما قال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ .
قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل .
وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل . حتى يكون خالصا صوابا والخالص : أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .
وهذا الذي ذكره الفضيل مما اتفق عليه أئمة المشايخ كما قال nindex.php?page=showalam&ids=12032أبو سليمان الداراني : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين : الكتاب والسنة وقال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=12032أبو سليمان أيضا : ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع بأثر كان نورا على نور .
وقال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لم يصح له أن يتكلم في علمنا هذا وقال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال : كل عمل على ابتداع فإنه عذاب على النفس وكل عمل بلا اقتداء فهو غش النفس .
[ ص: 586 ] وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ; لأن الله يقول : { وإن تطيعوه تهتدوا } .
ومثل هذا كثير في كلامهم .
وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته فهو الداعي إلى الله بإذنه الهادي إلى صراطه الذي من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي . آخره والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على محمد وصحبه وسلم .