[ ص: 620 ] وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان . تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني - رضي الله عنه - . عن " جماعة " يجتمعون على قصد الكبائر : من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك .
[ ص: 623 ] وشواهد هذا " الأصل العظيم الجامع " من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب .
" كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين وكان السلف - كمالك وغيره - : يقولون السنة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وقال الزهري : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة .
إذا عرف هذا فمعلوم أنما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصا محتاجا تتمة .
وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب .
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله ; فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالبا على ضرره لم يهمله الشارع ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي .
يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة أو عاجز عنها فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .
فلا يجوز أن يقال : إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي ; [ ص: 625 ] بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة - تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .
وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية .
فلا يمكن أن يقال : إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية بل قد يقال : إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية عاجزا عنها ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية .
وبهذا السماع هدى الله العباد وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وبه أمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .
وعليه كان يجتمع السلف كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون وكان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون .
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذ استثقلت بالكافرين المضاجع [ ص: 629 ] أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أنما قال واقع
وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله من وجل القلوب ودمع العيون واقشعرار الجلود .
وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون فأنكره الأئمة حتى قال : الشافعي - رحمه الله - خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يزعمون أنه يرقق القلوب يصدون به الناس عن القرآن .
وسئل الإمام أحمد عنه فقال : محدث فقيل له : أنجلس معهم فيه ؟ فقال : لا يجلس معهم .
والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم من أمثل أنواع السماع .
وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره والأئمة المشايخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث مثل nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم nindex.php?page=showalam&ids=12032وأبي سليمان الداراني nindex.php?page=showalam&ids=17117ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم .
ولا أكابر الشيوخ المتأخرين : مثل الشيخ عبد القادر والشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان والشيخ أبي القاسم الحوفي والشيخ علي بن وهب والشيخ حياة وأمثالهم .
وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه .
وسئل الجنيد عنه فقال : من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به .
فبين [ ص: 630 ] الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتونا وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس .
فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع دون السماع ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه ; لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي ; لأنه لم يكن مستمعا بل سامعا .
وقول السائل وغيره : هل هو حلال ؟ أو حرام ؟ لفظ مجمل فيه تلبيس يشتبه الحكم فيه حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه ; وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين : ( أحدهما أنه هل هو محرم ؟ أو غير محرم ؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها .
مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله .
و ( النوع الثاني أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم [ ص: 631 ] وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لا من جنس اللعب والملهيات .
إذا عرف هذا فحقيقة السؤال : هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي : إما محرمة ؟ أو مكروهة ؟ أو مباحة ؟ قربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويتوب العاصين ويرشد به الغاوين ويهدي به الضالين .
ومن المعلوم أن الدين له " أصلان " فلا دين إلا ما شرع الله ولا حرام إلا ما حرمه الله .
والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله وشرعوا دينا لم يأذن به الله .
[ ص: 632 ] ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين : هل يباح له ذلك ؟ قال : نعم فإذا قيل : إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة قال : إن فعله على هذا الوجه حرام منكر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل .
ولو سئل : عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء : أفتى بأن هذا جائز فإذا قيل : إنه يفعله على وجه الإحرام . كما يحرم الحاج .
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة .
كما كانوا يفعلون في الجاهلية : [ ص: 633 ] كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف فنهوا عن ذلك كما قال تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } فبين سبحانه أن هذا ليس ببر وإن لم يكن حراما فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيا مذموما مبتدعا والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية ; لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب .
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله ولا يرجو به الثواب وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينا وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه .
فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين : إن اتخاذ هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى أمر مباح ; بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال مفتر مخالف لإجماع المسلمين .
ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلما في الدين بلا علم .
فالسؤال عن مثل هذا أن يقال : هل ما يفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا ؟ وهل يثابون على ذلك أم لا ؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله ففعلوه على أنه قربة [ ص: 634 ] وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى .
هل يحل لهم هذا الاعتقاد ؟ وهذا العمل على هذا الوجه ؟ وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : إن هذا من القرب والطاعات وأنه من أنواع العبادات وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده : لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودا ولا حسنة ولا طاعة ولا عبادة باتفاق المسلمين .
لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقا يقدمونه على سماع القرآن وجدا وذوقا .
وربما قدموه عليه اعتقادا فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية وألسن لاغية وحركات مضطربة وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم ولا ترتاح إليه نفوسهم فإذا سمعوا " المكاء " و " التصدية " أصغت القلوب واتصل المحبوب بالمحب وخشعت الأصوات وسكنت الحركات فلا سعلة ولا عطاس ولا لغط ولا صياح وإن قرءوا شيئا من القرآن أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به [ ص: 635 ] ولا فائدة له فيه حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك وأقبلوا عليه وعكفت أرواحهم عليه .
فهؤلاء جند الشيطان وأعداء الرحمن وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين ; فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى ويبغض ما أبغض الله تعالى ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله وهؤلاء يحبون ما أبغض الله ويبغضون ما أحب الله ويوالون أعداء الله ويعادون أولياءه ; ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله وجند الشيطان .
فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم وفيهم من يحضر طعاما وإداما .
ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك .
فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل .
وقد بسطنا الكلام على " مسألة السماع " وذكرنا كلام المشايخ فيه في غير هذا الموضع وبالله التوفيق والله أعلم .