[ ص: 691 ] فصل و " أيضا " فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التي لو قالها أو فعلها عذب .
قال تعالى : {
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل : كالذي هم بالسيئة ولم يعملها وإن تركها لله كتبت له حسنة .
وهذا مما يستغفر منه ويتوب ; فإن
الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم .
فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك : أي يرجع عنه حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه .
أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به ; فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به .
فالذي يهم بالسيئات وإن كان لا يكتب عليه سيئة ; لكنه اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها .
وقد بسطنا في غير هذا الموضع : أن فعل الإنسان وقوله - إما له وإما عليه - لا يخلو من هذا أو هذا .
فهو يستغفر الله ويتوب مما
[ ص: 692 ] عليه .
وقد يظن ظنون سوء باطلة وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها استغفر الله وتاب .
وظلمه لنفسه يكون بترك واجب كما يكون بفعل محرم .
فقوله تعالى : {
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } من عطف العام على الخاص وكذلك قوله : {
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } وقد قيل : في قوله تعالى {
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } قيل : الفاحشة الزنا وقيل : كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها .
قيل : هو فاحشة أيضا .
وقيل : هي الصغائر .
وهذا يوافق قول من قال : الفاحشة هي الكبيرة فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة ومن قال : الفاحشة الزنا يقول : ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات وقيل : الفاحشة الزنا وظلم النفس ما دونه من اللمس والقبلة والمعانقة وقيل : هذا هو الفاحشة وظلم النفس المعاصي وقيل الفاحشة فعل وظلم النفس قول .
والتحقيق أن "
ظلم النفس " جنس عام يتناول كل ذنب وفي الصحيحين {
nindex.php?page=hadith&LINKID=69093أن أبا بكر قال : يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم }
[ ص: 693 ] وفي صحيح
مسلم وغيره {
nindex.php?page=hadith&LINKID=601351أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه : اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ; فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت } " .
وقد قال أبو البشر وزوجته : {
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } .
وقال
موسى : {
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقال
ذو النون " يونس " : {
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } .
وقالت
بلقيس : {
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } .
وفي الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عن أهل القرى المعذبين : {
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } .
وأما قوله : {
اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } فقد قيل : إن الذنوب هي الصغائر والإسراف هو الكبائر .
و " التحقيق " أن " الذنوب " اسم جنس و " الإسراف " تعدي الحد ومجاوزة القصد كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم
[ ص: 694 ] والإسراف كالعدوان كما في قوله : {
غير باغ ولا عاد } ومجاوزة قدر الحاجة فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله .
فهذا كله ذنب كالذي يرضى لنفسه ويغضب لنفسه فهو متبع لهواه و " الإسراف " كالذي يغضب لله فيعاقب بأكثر مما أمر الله .
والآية في سياق قتال
المشركين وما أصابهم يوم أحد .
وقد أخبر عمن قبلهم بقوله : {
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } وقد قيل على الصحيح المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون {
فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } {
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } الآية .
فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو
المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها .
والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء .
فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى : {
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } وقال : {
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } .
وقال : {
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } فالإسراف مجاوزة الحد .
هذا آخر ما كتبته هنا .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
والحمد لله رب العالمين .