[ ص: 168 ] وقال شيخ الإسلام
أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه . فصل في
قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } {
إن الدين عند الله الإسلام } : قد تنوعت عبارات المفسرين في لفظ ( شهد فقالت طائفة منهم
مجاهد والفراء وأبو عبيدة : أي حكم وقضى .
وقالت طائفة منهم
ثعلب والزجاج : أي بين . وقالت طائفة : أي أعلم . وكذلك قالت طائفة معنى شهادة الله الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار وعن
ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال : {
شهد الله أنه لا إله إلا هو }
. وكل هذه الأقوال وما في معناها صحيحة ; وذلك أن الشهادة
[ ص: 169 ] تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره وإن لم يكن معلما به لغيره ولا مخبرا به لسواه .
فهذه أول مراتب الشهادة . ثم قد يخبره ويعلمه بذلك فتكون الشهادة إعلاما لغيره وإخبارا له ومن أخبر غيره بشيء فقد شهد به سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن كما في قوله تعالى {
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } قوله تعالى {
وما شهدنا إلا بما علمنا } الآية .
ففي كلا الموضعين إنما أخبروا خبرا مجردا وقد قال : {
واجتنبوا قول الزور } {
حنفاء لله غير مشركين به } . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=5797عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها مرتين أو ثلاثا ثم تلا هذه الآية : { واجتنبوا قول الزور } } وهذا يعم كل قول زور بأي لفظ كان وعلى أي صفة وجد فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره .
و " الزور " هو الباطل الذي قد ازور عن الحق والاستقامة أي تحول وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور وقد قال في المظاهرين من نسائهم {
وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا }
[ ص: 170 ] وفي الصحيحين عن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=79375ابن عباس قال : شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس } وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك ; ولم يقولوا : نشهد عندك ; فإن
الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ في التحديث وإن كان أحدهم قد ينطق به ومنه قولهم في
ماعز : فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقرارا ولم يقل : أشهد . ومنه قوله تعالى {
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وشهادة المرء على نفسه هي إقراره وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء وإنما تنازعوا في
الشهادة عند الحاكم هل يشترط فيها لفظ أشهد ؟ على قولين في مذهب
أحمد وكلام
أحمد يقتضي أنه لا يعتبر ذلك وكذلك مذهب
مالك و " الثاني " يشترط ذلك كما يحكى عن مذهب
أبي حنيفة والشافعي .
و " المقصود هنا " الآية .
فالشهادة تضمنت مرتبتين : " إحداهما " تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد في نفسه به . و " الثاني " إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به ; فمن قال :
[ ص: 171 ] حكم وقضى فهذا من باب اللازم فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر . ولا ريب
أن الله ألزم الخلق التوحيد وأمرهم به وقضى به وحكم فقال : {
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال : {
أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وقال : {
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الآية وقال تعالى : {
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } وقال : {
وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } {
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } وهذا كثير في القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده ويحرم عليهم عبادة ما سواه فقد حكم وقضى : أنه لا إله إلا هو .
ولكن الكلام في دلالة لفظ الشهادة على ذلك ; وذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم أن ما سواه ليس بإله فلا يعبد وأنه وحده الإله الذي يستحق العبادة وهذا يتضمن
الأمر بعبادته والنهي عن عبادة ما سواه فإن النفي والإثبات في مثل هذا يتضمن الأمر والنهي كما إذا استفتى شخص شخصا فقال له قائل : هذا ليس بمفت هذا هو المفتي ففيه نهي عن استفتاء الأول وأمر وإرشاد إلى استفتاء الثاني .
[ ص: 172 ]
وكذلك إذا تحاكم إلى غير حاكم أو طلب شيئا من غير ولي الأمر فقيل له : ليس هذا حاكما ولا هذا سلطانا ; هذا هو الحاكم وهذا هو السلطان فهذا النفي والإثبات يتضمن الأمر والنهي وذلك أن الطالب إنما يطلب من عنده مراده ومقصوده فإذا ظنه شخصا فقيل له : ليس مرادك عنده وإنما مرادك عند هذا كان أمرا له بطلب مراده عند هذا دون ذاك .
والعابدون إنما مقصودهم أن يعبدوا من هو إله يستحق العبادة فإذا قيل لهم كل ما سوى الله ليس بإله إنما الإله هو الله وحده كان هذا نهيا لهم عن عبادة ما سواه وأمرا بعبادته . و " أيضا " فلو لم يكن هناك طالب للعبادة فلفظ الإله يقتضي أنه يستحق العبادة فإذا أخبر أنه هو المستحق للعبادة دون ما سواه كان ذلك أمرا بما يستحقه .
وليس المراد هنا " بالإله " من عبده عابد بلا استحقاق فإن هذه الآلهة كثيرة ; ولكن تسميتهم آلهة والخبر عنهم بذلك واتخاذهم معبودين أمر باطل كما قال تعالى : {
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } وقال : {
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل }
.
[ ص: 173 ] فالآلهة التي جعلها عابدوها آلهة يعبدونها كثيرة ; لكن هي لا تستحق العبادة فليست بآلهة كمن جعل غيره شاهدا أو حاكما أو مفتيا أو أميرا وهو لا يحسن شيئا من ذلك .
ولا بد لكل إنسان من إله يألهه ويعبده {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597544تعس عبد الدينار وعبد الدرهم } فإن بعض الناس قد أله ذلك محبة وذلا وتعظيما كما قد بسط في غير هذا الموضع .
فإذا شهد الله أنه لا إله إلا هو فقد حكم وقضى بأن لا يعبد إلا إياه . و " أيضا " فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال : للجمل الخبرية قضية ويقال : قد حكم فيها بثبوت هذا المعنى وانتفاء هذا المعنى وكل شاهد ومخبر هو حاكم بهذا الاعتبار قد حكم بثبوت ما أثبته ونفي ما نفاه حكما خبريا قد يتضمن حكما طلبيا .