فصل وأما
السيئات : فمنشؤها الجهل والظلم . فإن أحدا لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة ، أو لهواه وميل نفسه إليها . ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها ، أو لبغض نفسه لها . وفي الحقيقة : فالسيئات كلها ترجع [ إلى ] الجهل . وإلا فلو كان عالما علما نافعا بأن فعل هذا يضره ضررا راجحا لم يفعله . فإن هذا خاصية العاقل . ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضررا راجحا ، كالسقوط من مكان عال ، أو في نهر يغرقه ، أو المرور بجنب حائط مائل ، أو دخول نار متأججة ، أو رمي ماله في البحر ونحو ذلك :
[ ص: 288 ] لم يفعله ، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه .
ومن لم يعلم أن هذا يضره - كالصبي ، والمجنون ، والساهي والغافل - فقد يفعل ذلك . ومن أقدم على ما يضره - مع علمه بما فيه من الضرر عليه - فلظنه أن منفعته راجحة . فإما أن يجزم بضرر مرجوح ، أو يظن أن الخير راجح . فلا بد من رجحان الخير ، إما في الظن وإما في المظنون ، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح .
فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر ، لكنه يترجح عنده السلامة والربح ، وإن كان مخطئا في هذا الظن . وكذلك الذنوب : إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع ، لم يسرق . وكذلك الزاني : إذا جزم بأنه يرجم ، لم يزن . والشارب يختلف حاله . فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين ، ويديم الشرب مع ذلك . ولهذا كان الصحيح : أن
عقوبة الشارب غير محدودة ، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل ، إذا لم ينته إلا بذلك .
كما جاءت بذلك الأحاديث . كما هو مذكور في غير هذا الموضع . وكذلك العقوبات ، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به
[ ص: 289 ] الضرر الراجح لم يفعله . بل إما ألا يكون جازما بتحريمه ، أو يكون غير جازم بعقوبته . بل يرجو العفو بحسنات ، أو توبة ، أو بعفو الله ، أو يغفل عن هذا كله . ولا يستحضر تحريما ، ولا وعيدا فيبقى غافلا . غير مستحضر للتحريم . والغفلة من أضداد العلم .