فصل فالغفلة والشهوة أصل الشر . قال تعالى {
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل . وإلا فصاحب الهوى ، إذا علم قطعا أن ذلك يضره ضررا راجحا : انصرفت نفسه عنه بالطبع .
فإن الله تعالى جعل في النفس حبا لما ينفعها ، وبغضا لما يضرها . فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا . بل متى فعلته كان لضعف العقل . ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل ، وذو نهى ، وذو حجا .
ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان . لا من مجرد النفس . فإن
[ ص: 290 ] الشيطان يزين لها السيئات . ويأمرها بها ، ويذكر لها ما فيها من المحاسن . التي هي منافع لا مضار . كما فعل إبليس
بآدم وحواء . فقال {
يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } {
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما } {
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } . ولهذا قال تعالى {
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } {
وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } وقال تعالى {
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } وقال تعالى {
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } .
وقوله {
زينا لكل أمة عملهم } هو بتوسيط تزيين الملائكة ، والأنبياء ، والمؤمنين للخير . وتزيين شياطين الجن والإنس للشر . قال تعالى {
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } فأصل
ما يوقع الناس في السيئات : الجهل ، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررا راجحا ، أو ظن أنها تنفعهم نفعا راجحا . ولهذا قال
[ ص: 291 ] الصحابة رضي الله عنهم " كل من عصى الله فهو جاهل " وفسروا بذلك قوله تعالى {
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } كقوله {
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } ولهذا يسمى حال فعل السيئات : الجاهلية . فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية : سألت
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ؟ {
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } فقالوا : كل من عصى الله فهو جاهل .
ومن تاب قبيل الموت : فقد تاب من قريب . وعن
قتادة قال " أجمع
أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو في جهالة ، عمدا كان أو لم يكن .
وكل من عصى الله فهو جاهل " وكذلك قال
التابعون ومن بعدهم . قال
مجاهد : من عمل ذنبا - من شيخ ، أو شاب - فهو بجهالة . وقال : من عصى ربه فهو جاهل . حتى ينزع عن معصيته . وقال أيضا : هو إعطاء الجهالة العمد . وقال
مجاهد أيضا : من عمل سوءا خطأ ، أو إثما عمدا : فهو جاهل . حتى ينزع منه . رواهن
ابن [ ص: 292 ] أبي حاتم . ثم قال : وروي عن
قتادة ،
وعمرو بن مرة ،
والثوري ، ونحو ذلك " خطأ ، أو عمدا " . وروي عن
مجاهد والضحاك قالا : ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما .
ولكن من جهالته : حين دخل فيه . وقال
عكرمة : الدنيا كلها جهالة وعن
الحسن البصري : أنه سئل عنها ؟ فقال : هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم . قيل له : أرأيت لو كانوا قد علموا ؟ قال : فليخرجوا منها . فإنها جهالة . قلت : ومما يبين ذلك : قوله تعالى {
إنما يخشى الله من عباده العلماء } وكل من خشيه ، وأطاعه ، وترك معصيته : فهو عالم . كما قال تعالى {
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }
. وقال رجل
للشعبي : أيها العالم . فقال : إنما
العالم من يخشى الله . قوله تعالى {
إنما يخشى الله من عباده العلماء } يقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم . فإنه لا يخشاه إلا عالم .
[ ص: 293 ] ويقتضي أيضا : أن العالم من يخشى الله . كما قال
السلف . قال
ابن مسعود " كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار جهلا " . ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين . حصر الأول في الثاني . وهو مطرد ، وحصر الثاني في الأول نحو قوله {
إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وقوله {
إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله {
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } {
تتجافى جنوبهم عن المضاجع } . وذلك : أنه أثبت الخشية للعلماء ، ونفاها عن غيرهم . وهذا كالاستثناء . فإنه من النفي : إثبات ، عند جمهور العلماء . كقولنا " لا إله إلا الله " قوله تعالى {
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقوله {
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقوله {
ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }
. وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه . لم يثبت له ما ذكر . ولم ينف عنه . وهؤلاء يقولون ذلك في صيغة الحصر بطريق الأولى . فيقولون : نفى الخشية عن غير العلماء ، ولم يثبتها لهم .
[ ص: 294 ] والصواب : قول الجمهور . أن هذا كقوله {
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق } فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها . لكن أثبتها للجنس . أو لكل واحد من العلماء ؟ كما يقال : إنما يحج المسلمون . ولا يحج إلا مسلم .
وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط ؟ . ففي هذه الآية وأمثالها : هو مقتض . فهو عام . فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف . فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات . وترك السيئات . وكل عاص فهو جاهل .
ليس بتام العلم . يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل ، وعدم العلم . وإذا كان كذلك . فعدم العلم ليس شيئا موجودا . بل هو مثل عدم القدرة ، وعدم السمع والبصر ، وسائر الأعدام . والعدم : لا فاعل له . وليس هو شيئا . وإنما الشيء الموجود . والله تعالى خالق كل شيء . فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله . لكن قد يقترن به ما هو موجود . فإذا لم يكن عالما بالله ، لا يدعوه إلى الحسنات ، وترك السيئات .
والنفس بطبعها متحولة . فإنها حية . والإرادة والحركة الإرادية من
[ ص: 295 ] لوازم الحياة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {
nindex.php?page=hadith&LINKID=70251أصدق الأسماء : حارث وهمام } فكل آدمي حارث وهمام . أي عامل كاسب ، وهو همام . أي يهم ويريد . فهو متحرك بالإرادة .
وقد جاء في الحديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597572مثل القلب : مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وللقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا } . فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها . فإذا هداها الله : علمها ما ينفعها وما يضرها . فأرادت ما ينفعها ، وتركت ما يضرها .