وقد ذكر
البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في
قوله { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } قولين . أحدهما : أن المستثنى هو الشافع . ومحل " من " الرفع .
والثاني : هو المشفوع له . قال
أبو الفرج : في معنى الآية قولان . أحدهما : أنه أراد بـ {
الذين يدعون من دونه } آلهتهم . ثم استثنى
عيسى وعزيرا والملائكة . فقال {
إلا من شهد بالحق } وهو شهادة أن لا إله إلا الله {
وهم يعلمون } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم . قال : وهذا مذهب الأكثرين منهم
قتادة .
[ ص: 401 ] والثاني أن المراد بـ {
الذين يدعون }
عيسى وعزيرا والملائكة الذين عبدهم المشركون لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد {
إلا من شهد بالحق } وهي كلمة الإخلاص {
وهم يعلمون } أن الله خلق
عيسى وعزيرا والملائكة .
وهذا مذهب قوم منهم
مجاهد . وقال
البغوي {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } هم
عيسى وعزير والملائكة . فإنهم عبدوا من دون الله . ولهم الشفاعة . وعلى هذا تكون " من " في محل رفع . وقيل " من " في محل خفض . وأراد بالذين يدعون :
عيسى وعزيرا والملائكة . يعني : أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق . قال : والأول أصح . قلت : قد ذكر جماعة قول
مجاهد وقتادة منهم
ابن أبي حاتم .
روى بإسناده المعروف - على شرط الصحيح - عن
مجاهد قوله {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة }
عيسى وعزير والملائكة يقول : لا يشفع
عيسى وعزير والملائكة {
إلا من شهد بالحق } يعلم الحق . هذا لفظه . جعل " شفع " متعديا بنفسه وكذلك لفظ . وعلى هذا فيكون منصوبا لا يكون مخفوضا كما قاله
البغوي .
[ ص: 402 ] فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم . ويكون على هذا يقال : شفعته وشفعت له كما يقال : نصحته ونصحت له . و " شفع " أي صار شفيعا للطالب . أي لا يشفعون طالبا ولا يعينون طالبا {
إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أن الله ربهم . وروي بإسناده عن
قتادة {
إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } الملائكة
وعيسى وعزير . أي أنهم قد عبدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة . قلت : كلا القولين معناه صحيح . لكن التحقيق في تفسير الآية : أن الاستثناء منقطع . ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقا . لا يستثنى من ذلك أحد عند الله . فإنه لم يقل : ولا يشفع أحد . ولا قال : لا يشفع لأحد بل قال {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة }
وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة ألبتة .
والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله ; وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد
المسيح . وهو - مع هذا - له شفاعة ليست لغيره . فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعي من دون الله دون من لم يدع .
[ ص: 403 ] فمن جعل الاستثناء متصلا فإن معنى كلامه : أن من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم . ويبقى الذين لم يدعوا من دون الله لم تذكر شفاعتهم لأحد . وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه . وسبب نزول الآية يبطله أيضا . وأيضا فقوله {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } يتناول كل معبود من دونه . ويدخل في ذلك الأصنام . فإنهم كانوا يقولون : هم يشفعون لنا . قال تعالى {
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض }
. فإذا قيل : إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله يشفعون لهم . وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة . فإنه إذا كان المعنى : أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا
[ ص: 404 ] صالحين . والقرآن كله يبطل هذا المعنى .
ولهذا قال تعالى {
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى {
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } {
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } {
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } فبين أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الرب . فعلم : أنه لا بد أن يؤذن لهم فيمن يشفعون فيه وأنهم لا يؤذن لهم إذن مطلق . وأيضا فإن في القرآن : إذا نفى الشفاعة من دونه : نفاها مطلقا . فإن قوله {
من دونه } إما أن يكون متصلا بقوله يملكون أو بقوله يدعون أو بهما . فالتقدير : لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه . أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا .
وهذا أظهر . لأنه قال {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } فأخر " الشفاعة " وقدم " من دونه " . ومثل هذا كثير في القرآن يدعون من دون الله و يعبدون من دون الله كقوله {
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } وقوله {
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } . بخلاف ما إذا قيل : لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه .
[ ص: 405 ] فإن هذا لا نظير له في القرآن . واللفظ المستعمل في مثل هذا أن يقال : لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه أو لمن ارتضى ونحو ذلك لا يقال في هذا المعنى " من دونه " فإن الشفاعة هي من عنده .
فكيف تكون من دونه ; لكن قد تكون بإذنه وقد تكون بغير إذنه . وأيضا فإذا قيل {
الذين يدعون } مطلقا . دخل فيه الرب تعالى . فإنهم كانوا يدعون الله ويدعون معه غيره .
ولهذا قال {
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } . والتقدير الثالث : لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه وهذا أجود من الذي قبله . لكن يرد عليه ما يرد على الأول . ومما يضعفهما : " أن الشفاعة " لم تذكر بعدها صلة لها . بل قال {
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } فنفى ملكهم الشفاعة مطلقا . وهذا هو الصواب . وأن كل من دعي من دون الله : لا يملك الشفاعة . فإن المالك للشيء : هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته .
والرب تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه . فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال . ولا يقال في هذا " إلا بإذنه " إنما يقال ذلك في الفعل . فيقال {
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } .
[ ص: 406 ] وأما في الملك : فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها . فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكا لها . بل هذا ممتنع كما يمتنع أن يكون خالقا وربا .
وهذا كما قال {
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } فنفى الملك مطلقا . ثم قال {
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه . لم يثبت أن مخلوقا يملك الشفاعة . بل هو سبحانه له الملك وله الحمد .
لا شريك له في الملك قال تعالى {
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } {
الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } . ولهذا - لما نفى الشفعاء من دونه - نفاهم نفيا مطلقا بغير استثناء . وإنما يقع الاستثناء : إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه . كما قال تعالى {
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } وكما قال تعالى {
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } وكما قال تعالى {
ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } فلما قال " من دونه " نفى الشفاعة مطلقا .
وإذا ذكر " بإذنه " لم يقل " من دونه " كقوله {
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقوله {
ما من شفيع إلا من بعد إذنه } .