[ ص: 41 ] وقال رحمه الله فصل في
قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } والكلام عليها من وجهين : " أحدهما " في
الاستغفار الدافع للعذاب .
و " الثاني " في
العذاب المدفوع بالاستغفار .
أما " الأول " : فإن العذاب إنما يكون على الذنوب والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التي هي سبب العذاب فيندفع العذاب كما قال تعالى : {
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } {
ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } {
وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } فبين سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعا حسنا إلى أجل مسمى ثم إن كان لهم فضل أوتوا الفضل .
[ ص: 42 ] وقال تعالى [ عن ]
نوح : {
يا قوم إني لكم نذير مبين } {
أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } {
يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } إلى قوله : {
استغفروا ربكم إنه كان غفارا } {
يرسل السماء عليكم مدرارا } الآية وقال تعالى : {
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم } وذلك أنه قد قال تعالى : {
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وقال تعالى {
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وقال تعالى : {
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال تعالى : {
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم } وقال تعالى : {
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } .
وأما العذاب المدفوع فهو يعم العذاب السماوي ويعم ما يكون من العباد وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابا كما قال تعالى في النوع الثاني : {
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } وقال تعالى : {
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } وكذلك : {
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا كما قال تعالى : {
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } .
[ ص: 43 ] وعلى هذا فيكون العذاب بفعل العباد وقد يقال : التقدير : {
ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } أو يصيبكم بأيدينا ; لكن الأول هو الأوجه ; لأن الإصابة بأيدي المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء ; إذ قد يقال : أصابه بخير وأصابه بشر . قال تعالى : {
وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده } وقال تعالى : {
فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون } .
وقال تعالى : {
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء } ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر لاكتفى بذلك في قوله : {
أن يصيبكم الله } .
وقد قال تعالى أيضا : {
وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } {
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } .
ومن ذلك قوله تعالى {
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } إلى قوله : {
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وقوله تعالى {
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } .
[ ص: 44 ] ومن ذلك أنه يقال في
بلال ونحوه : كانوا من المعذبين في الله ويقال إن
أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله . وقال صلى الله عليه وسلم " {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14362السفر قطعة من العذاب } " .
وإذا كان كذلك فقوله تعالى : {
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } مع ما قد ثبت في الصحيحين عن
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597652أنه لما نزل قوله : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال : أعوذ بوجهك { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال : هاتان أهون } " يقتضي أن لبسنا شيعا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذي يندفع بالاستغفار كما قال : {
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } وإنما
تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح .
وقوله تعالى {
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم } قد يكون العذاب من عنده وقد يكون بأيدي العباد فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع ; فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم
[ ص: 45 ] وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض .
وكذلك قوله : {
ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } يدخل في العذاب الأدنى ما يكون بأيدي العباد كما قد فسر بوقعة
بدر بعض ما وعد الله به
المشركين من العذاب .