فإذا قال القائل : أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات ؟ كان جاهلا ; لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم فكيف يقال : إنهم لا يحتاجون إليها فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم .
وإذا قال القائل : فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب والاستغفار كذلك [ ص: 54 ] قيل له : الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة كما قال بعض السلف : كان داود بعد التوبة أحسن منه حالا قبل الخطيئة ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر ; فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصا ولا عيبا ; بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم ; فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها .
والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه ; ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك . وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها . [ ص: 56 ] ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على الله وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات ; فهو أفضل المحبين لله وأفضل المتوكلين على الله وأفضل العابدين له وأفضل العارفين به وأفضل التائبين إليه وتوبته أكمل من توبة غيره ; ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
فالمسيح - صلوات الله عليه وسلامه - دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له إذ ليس بين المخلوفين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد [ ص: 57 ] ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل .