وأما آية الليل -
قوله { إن علينا للهدى } -
Multitarajem.php?tid=13365,13366فابن عطية مثلها بهذه الآية لكنه فسرها بالوجه الأول فقال :
[ ص: 210 ] ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك كما
قال { وعلى الله قصد السبيل } ثم كل أحد يتكسب ما قدر له . وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر .
( قلت : وهذا هو الذي ذكره
ابن الجوزي - وذكره عن
الزجاج . قال
الزجاج : إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال .
وهذا التفسير ثابت عن
قتادة رواه
عبد بن حميد . قال : حدثنا
يونس عن
شيبان عن
قتادة : {
إن علينا للهدى } علينا بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته . وكذلك رواه
ابن أبي حاتم في تفسير
سعيد عن
قتادة في قوله {
إن علينا للهدى } يقول : على الله البيان - بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته . لكن
قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فتبين به حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
وأما
الثعلبي والواحدي والبغوي وغيرهم فذكروا القولين وزادوا أقوالا أخر . فقالوا - واللفظ
للبغوي :
[ ص: 211 ] {
إن علينا للهدى } يعني البيان . قال
الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة . وهو قول
قتادة قال : على الله بيان حلاله وحرامه .
وقال
الفراء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى {
وعلى الله قصد السبيل } يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد .
قال : وقيل معناه إن علينا للهدى والإضلال كقوله " بيدك الخير " ( قلت : هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن
السلف وكذلك ما أشبهه . فإنهم قالوا : معناه بيدك الخير والشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597694والخير بيديك والشر ليس إليك } .
والله تعالى خالق كل شيء - لا يكون في ملكه إلا ما يشاء - والقدر حق . لكن فهم القرآن ووضع كل شيء موضعه وبيان حكمة الرب وعدله مع الإيمان بالقدر هو طريق
الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
وقد ذكر
المهدوي الأقوال الثلاثة فقال : إن علينا للهدى
[ ص: 212 ] والضلال . فحذف
قتادة . المعنى : إن علينا بيان الحلال والحرام .
وقيل : المعنى إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى .
قلت : هذا هو قول
الفراء لكن عبارة
الفراء أبين في معرفة هذا القول .
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله . ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم . والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين .
وأما الثاني فقد يقول طائفة : ليس على الله شيء - لا بيان هذا ولا هذا . فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه كما قال {
كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقوله {
وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وقوله {
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
} وإذا كان عليه بيان الهدى من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فهذا يوافق قول من يقول : إن عليه إرسال الرسل وإن ذلك واجب عليه فإن البيان لا يحصل إلا بهذا .
وهذا يتعلق بأصل آخر وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه
[ ص: 213 ] أوجبته مشيئته وحكمته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . فما شاءه وجب وجوده وما لم يشأه امتنع وجوده . وبسط هذا له موضع آخر .
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر .
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعا وأنه أرشد بها إلى [ الطريق ] المستقيم وهي الطريق القصد وهي الهدى إنما تدل عليه - وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه .
لكن نشأت الشبهة من كونه قال " علينا " بحرف الاستعلاء ولم يقل " إلينا " والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال " هذه الطريق إلى فلان " ولمن يمر به ويجتاز عليه أن يقول " طريقنا على فلان " .
وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء . وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء .
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا كما قال تعالى {
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } وقال {
وإلى الله المصير } {
إن إلينا إيابهم } أي إلينا مرجعهم وقال
[ ص: 214 ] {
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } {
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } {
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } وقال {
أم لم ينبأ بما في صحف موسى } {
وإبراهيم الذي وفى } {
ألا تزر وازرة وزر أخرى } {
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } {
وأن سعيه سوف يرى } {
ثم يجزاه الجزاء الأوفى } {
وأن إلى ربك المنتهى } وقال {
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون } فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه لا بد له من لقاء الله {
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى
} وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدى وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان . وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله . فلهذا قال {
إن علينا للهدى } {
وعلى الله قصد السبيل } {
قال هذا صراط علي مستقيم } . فالهدى وقصد السبيل والصراط المستقيم إنما يدل على عبادته وطاعته - لا يدل على معصيته وطاعة الشيطان .
[ ص: 215 ] فالكلام تضمن معنى " الدلالة " إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة فإن الجزاء يعم الخلق كلهم . بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله - ما الذي يدل على ذلك ؟ فكأنه قيل : الصراط المستقيم يدل على الله - على عبادته وطاعته .
وذلك يبين أن من لغة
العرب أنهم يقولون " هذه الطريق على فلان " إذا كانت تدل عليه وكان هو الغاية المقصود بها ; وهذا غير كونها " عليه " بمعنى أن صاحبها يمر عليه . وقد قيل :
فهن المنايا أي واد سلكته عليها طريقي أو علي طريقها
وهو كما قال
الفراء : من سلك الهدى فعلى الله سبيله .
فالمقصود بالسبيل هو : الذي يدل ويوقع عليه كما يقال : إن سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود ونحو ذلك وكما يقال " على الخبير سقطت " . فإن الغاية المطلوبة إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها .
وأيضا
فسالك طريق الله متوكل عليه . فلا بد له من عبادته ومن التوكل عليه .
فإذا قيل " عليه الطريق المستقيم " تضمن أن سالكه عليه يتوكل
[ ص: 216 ] وعليه تدله الطريق وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط لا يعدل عن ذلك إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية .
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم . فعليه الصراط المستقيم وهو على صراط مستقيم - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا والله أعلم .