[ ص: 127 ] فصل
قوله : { الذي خلق فسوى } {
والذي قدر فهدى } العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما ذكر وأن بينهما مغايرة إما في الذات وإما في الصفات .
وهو في الذات كثير كقوله : {
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } . وأما في الصفات فمثل هذه الآية . فإن الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى ; لكن هذا الاسم والصفة ليس هو ذاك الاسم والصفة . ومثله قوله : {
هو الأول والآخر والظاهر والباطن } ومثله قوله : {
الذين يؤمنون بالغيب } إلى قوله {
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } . وقوله : {
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر } وقوله : {
قد أفلح المؤمنون } {
الذين هم في صلاتهم خاشعون } {
والذين هم عن اللغو معرضون } وقوله : {
إلا المصلين } {
الذين هم على صلاتهم دائمون } {
[ ص: 128 ] والذين في أموالهم حق معلوم } الآيات .
وقوله : {
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } الآيات فإنه [ من صدق و ] صبر ولم يسلم ولم يؤمن لم يكن ممن أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .
وكثيرا ما تأتي الصفات بلا عطف كقوله : {
هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن } وقوله : {
قل أعوذ برب الناس } {
ملك الناس } {
إله الناس } .
وقد تجيء خبرا بعد خبر كقوله : {
وهو الغفور الودود } {
ذو العرش المجيد } {
فعال لما يريد } . ولو كان " فعال " صفة لكان معرفا بل هو خبر بعد خبر . وقوله : {
هو الأول والآخر } خبر بعد خبر لكن بالعطف بكل من الصفات .
وأخبار المبتدأ قد تجيء بعطف وبغير عطف . وإذا ذكر بالعطف كان كل اسم مستقلا بالذكر وبلا عطف يكون الثاني من تمام الأول بمعنى . ومع العطف لا تكون الصفات إلا للمدح والثناء أو للمدح وأما بلا عطف فهو في النكرات للتمييز وفي المعارف قد يكون للتوضيح .
[ ص: 129 ] و {
الذي خلق فسوى } {
والذي قدر فهدى } {
والذي أخرج المرعى } وصف بكل صفة من هذه الصفات ومدح بها وأثني عليه بها . وكانت كل صفة من هذه الصفات مستوجبة لذلك .
فصل قال تعالى : {
الذي خلق فسوى } . فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان كما أطلق قوله بعد {
والذي قدر فهدى } لم يقيده . فكان هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات . وقد بين
موسى عليه السلام شموله في قوله : {
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } .
وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله : {
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } {
الذي خلقك فسواك فعدلك } .
وقد ذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن وهو قوله : {
اقرأ باسم ربك الذي خلق } {
خلق الإنسان من علق } {
اقرأ وربك الأكرم } {
الذي علم بالقلم } {
علم الإنسان ما لم يعلم } .
وفي جميع هذه الآيات مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد قد ذكر خلقه وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق كما قال في هذه السورة : {
الذي خلق فسوى } {
والذي قدر فهدى } .
[ ص: 130 ] لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها فلا بد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها . فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها .
وهذا مما يبين أن
الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها كما قال ذلك
السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء .
وقالت طائفة
كجهم وأتباعه إنه لم يخلق شيئا لشيء ووافقه
أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه من الفقهاء أتباع الأئمة . وهم يثبتون أنه مريد وينكرون أن تكون له حكمة يريدها .
وطائفة من
المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته وينكرون إرادته . وكلاهما تناقض . وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع وأن منتهاهم جحد الحقائق .
فإن هذا يقول : " لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب [ أن يريد ] الحكمة وينتفع بها وهو منزه عن ذلك " . وذاك يقول : " لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة ; فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك " .
وأرسطو وأتباعه يقولون : " لو فعل شيئا لكان الفعل لغرض وهو منزه عن ذلك " .
[ ص: 131 ] فيقال لهؤلاء : هذه الحوادث المشهودة ألها محدث أم لا ؟ فإن قالوا " لا " فهو غاية المكابرة . وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزها بمحدث لا إرادة له أولى .
وإن قالوا " لها محدث " ثبت الفاعل . وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة .
فإن قالوا " يفعل بغير إرادة " كان ذلك أيضا مكابرة . فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة . فإن الحركات إما طبعية وإما قسرية وإما إرادية . لأن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من سبب خارج . وما كان منها فإما أن يكون مع الشعور أو بدون الشعور . فما كان سببه من خارج فهو القسري وما كان سببه منها بلا شعور فهو الطبعي وما كان مع الشعور فهو الإرادي . فالقسري تابع للقاسر والذي يتحرك بطبعه كالماء والهواء والأرض هو ساكن في مركزه ; لكن إذا خرج عن مركزه قسرا طلب العود إلى مركزه فأصل حركته القسر . ولم تبق حركة أصلية إلا الإرادية . فكل حركة في العالم فهي عن إرادة .
فكيف تكون جميع الحوادث والحركات بلا إرادة ؟ .
وأيضا فإذا جوزوا أن تحدث الحوادث العظيمة عن فاعل غير مريد فجواز ذلك عن فاعل مريد أولى .
[ ص: 132 ] وإذا ثبت أنه مريد قيل : إما أن يكون أرادها لحكمة وإما أن يكون أرادها لغير حكمة . [ فإن قالوا " لغير حكمة " كان ] مكابرة . فإن الإرادة لا تعقل إلا إذا كان المريد قد فعل لحكمة يقصدها بالفعل .
وأيضا فإذا جوزوا أن يكون فاعلا مريدا بلا حكمة فكونه فاعلا مريدا لحكمة أولى بالجواز .
وأما قولهم : " هذا لا يعقل إلا في حق من ينتفع وذلك يوجب الحاجة والله منزه عن ذلك " .
فإن أرادوا أنه يوجب احتياجه إلى غيره أو شيء من مخلوقاته فهو ممنوع وباطل ; فإن كل ما سواه محتاج إليه من كل وجه . وهو الصمد الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه . فكيف يكون محتاجا إلى غيره ؟ وإن أرادوا أنه تحصل له بالخلق حكمة هي أيضا حاصلة بمشيئته فهذا لا محذور فيه بل هو الحق .
وإذا قالوا " الحكمة هي اللذة " قيل : لفظ " اللذة " لم يرد به الشرع وهو موهم ومجمل . لكن جاء الشرع بأنه " يحب " و " يرضى "
[ ص: 133 ] و " يفرح بتوبة التائبين " ونحو ذلك . فإذا أريد ما دل عليه الشرع والعقل فهو حق .
وإن قالوا : " الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة " قيل : المرادات نوعان ما يراد لنفسه وما يراد لغيره . وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى . فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها .
والمعتزلة ومن وافقهم
Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وغيره تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته . وأما
السلف فإنهم يثبتون حكمة تعود إليه كما قد بين في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا ذكر قوله تعالى {
الذي خلق فسوى } {
والذي قدر فهدى } . والتسوية : جعل الشيئين سواء كما قال : {
وما يستوي الأعمى والبصير } وقوله تعالى {
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } و {
سواء } وسط لأنه معتدل بين الجوانب .
وذلك أنه لا بد في الخلق والأمر من العدل . فلا بد من التسوية بين المتماثلين فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانا فلا بد من التسوية بين الحيطان إذ لو رفع حائط على
[ ص: 134 ] حائط رفعا كثيرا فسد . ولا بد من التسوية بين جذوع السقف فلو كان بعض الجذوع قصيرا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد . وكذلك إذا بني صف فوق صف لا بد من التسوية بين الصفوف وكذلك الدرج المبنية . وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول ومساكب فلا بد من العدل والتسوية فيها . وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلا بد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص . وكذلك ما يصنع من الطعام لا بد أن تكون أخلاطه على وجه الاعتدال والنار التي تطبخه كذلك . وكذلك السفن المصنوعة .
ولهذا قال الله
لداود : {
وقدر في السرد } أي لا تدق المسمار فيقلق ولا تغلظه فيفصم واجعله بقدر .
فإذا كان هذا في مصنوعات العباد وهي جزء من مصنوعات الرب فكيف بمخلوقاته العظيمة التي لا صنع فيها للعباد كخلق الإنسان وسائر البهائم وخلق النبات وخلق السموات والأرض والملائكة .
فالفلك الذي خلقه وجعله مستديرا ما له من فروج كما قال تعالى : {
الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور } {
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } وقال تعالى : {
والسماء ذات الحبك } وقال :
[ ص: 135 ] {
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } فهو سبحانه سواها كما سوى الشمس والقمر وغير ذلك من المخلوقات فعدل بين أجزائها . ولو كان أحد جانبي السماء داخلا أو خارجا لكان فيها فروج وهي الفتوق والشقوق ولم يكن سواها كمن بنى قبة ولم يسوها . وكذلك لو جعل أحد جانبيها أطول أو أنقص ونحو ذلك .
فالعدل والتسوية لازم لجميع المخلوقات والمصنوعات . فمتى لم تصنع بالعدل والتسوية بين المتماثلين وقع فيها الفساد .
وهو سبحانه {
الذي خلق فسوى } . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11873أبو العالية في قوله : {
خلق فسوى } قال : سوى خلقهن وهذا كما قال تعالى : {
فقضاهن سبع سماوات في يومين } .