وأما
الذين يقولون : نثبت الصانع والخالق ويقولون : إنا نسلك غير هذه الطريق كالاستدلال بحدوث الصفات على الرب . فإن هذه تدل عليه من غير احتياج إلى ما التزمه أولئك .
والرازي قد ذكر هذه الطريق .
وأما
الأشعري نفسه فلم يستدل بها . بل " في اللمع " و " رسالته " إلى الثغر استدل بالحوادث على حدوث ما قامت به كما ذكره في النطفة بناء على امتناع حوادث لا أول لها . ثم جعل حدوث تلك الجواهر التي ذكر أنه دل على حدوثها هو الدليل على ثبوت الصانع . وهذه الطريق باطلة كما قد بين .
وأما تلك فهي صحيحة لكن أفسدوها من جهة كونهم جعلوا
[ ص: 457 ] الحوادث المشهود لهم حدوثها هي الأعراض فقط كما قد بينا هذا في مواضع .
ثم يقال : هؤلاء يثبتون خالقا لا خلق له . وهذا ممتنع في بداية العقول ؟ فلم يثبتوا خالقا .
والكرامية وإن كانوا يقولون : الخلق غير المخلوق فهم يقولون بحدوث الخلق بلا سبب يوجب حدوثه . وهذا أيضا ممتنع . فما أثبتوا خالقا .
وأيضا فهؤلاء وهؤلاء يقولون : الموجب للتخصيص بحدوث ما حدث دون غيره هو إرادة قديمة أزلية .
فالكرامية يقولون : هي المخصص لما قام به وما خلقه . وهؤلاء عندهم لم يقم به شيء يكون مرادا بل يقولون : هي المخصص لما حدث .
والطائفتان ومن وافقهم يقولون : تلك الإرادة قديمة أزلية لم تزل على نعت واحد ثم وجدت الحوادث بلا سبب أصلا . ويقولون : من شأنها أن تخصص مثلا على مثل ومن شأنها أن تتقدم على المراد تقدما لا أول له . فوصفوا الإرادة بثلاث صفات باطلة يعلم بصريح العقل أن الإرادة لا تكون هكذا وهي المقتضية للخلق والحدوث فإذا أثبتت فلا خلق ولا حدوث .
[ ص: 458 ] وكذلك القدرة التي أثبتوها وصفوها بما يمتنع أن يكون قدرة . وهي شرط في الخلق . فإذا نفوا شرط الخلق انتفى الخلق فلم يبق خالقا . فالذي وصفوا به الخالق يناقض كونه خالقا ليس بلازم لكونه خالقا . وهم جعلوه لازما لا مناقضا .
أما الإرادة فذكروا لها ثلاثة لوازم والثلاثة تناقض الإرادة .
قالوا إنها تكون ولا مراد لها بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها . وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل . فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل فالمتقدم كان عزما على الفعل وقصدا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال . بل إذا فعل فلا بد من إرادة الفعل في الحال . ولهذا يقال : الماضي عزم والمقارن قصد . فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع . فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعا لو قدر إمكان حدوث الحوادث بلا سبب فكيف وذاك أيضا ممتنع في نفسه ؟ فصار الامتناع من جهة الإرادة ومن جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه .
الثاني قولهم إن الإرادة ترجح مثلا على مثل : فهذا مكابرة بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفاعل . إما لعلمه بأنه أفضل أو لكون محبته له أقوى . وهو إنما يترجح في العلم لكون
[ ص: 459 ] عاقبته أفضل . فلا يفعل أحد شيئا بإرادته إلا لكونه يحب المراد أو يحب ما يئول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه لا يكون وجوده وعدمه عنده سواء .
الثالث أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة : فهذا أيضا باطل . بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة .
والرب تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وهو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورا لم يفعلها كما قال {
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } {
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } {
ولو شاء الله ما اقتتلوا } . فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرا عليه . لكنه لا يفعله لأنه لم يشأه إذ كان عدم مشيئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرا عليه لو شاءه .
وقد بسط الكلام على ما يذكرونه في القدرة والإرادة هم وغيرهم في غير هذا الموضع . وأن من هؤلاء من يقول : إنما يقدر على الأمور المباينة له دون الأفعال القائمة بنفسه كما يقول ذلك
المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من
الأشعرية وغيرهم . ومنهم من يقول : بل يقدر على ما يقوم به من الأفعال وعلى ما هو باين عنه كما يحكى عن
الكرامية .
[ ص: 460 ] والصواب الذي دل عليه القرآن والعقل أنه يقدر على هذا وهذا قال تعالى {
بلى قادرين على أن نسوي بنانه } وقال {
أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } وقال {
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقال {
وإنا على ذهاب به لقادرون } وهذا كثير في القرآن أكثر من النوع الآخر .
فإن ما قاله
الكرامية والهشامية أقرب إلى العقل والنقل مما قالت
الجهمية ومن وافقهم وإن كان فيما حكوه عنهم خطأ من جهة نفيهم القدرة على الأمور المباينة .
والله تعالى قد أخبر أنه على كل شيء قدير . وفي الصحيحين عن {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597883النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي مسعود لما رآه يضرب غلامه : لله أقدر عليك منك على هذا } . وفي القرآن {
فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } {
أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } . وبسط هذا له مواضع أخر .
فجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو لازم في نفس الأمر . وكل ما أثبته من صفات الرب فهو لازم . وإذا قدر عدمه لزم عدم الملزوم . فنفي ما أخبر به الرسول مستلزم للتعطيل .
لكن من ذلك ما يظهر بالعقل مع تفاوت الناس في العقل ومنه
[ ص: 461 ] ما يكفي فيه مجرد خبر الرسول . فإن ما أخبر به الرسول فهو حق .
وكل ما أثبت للرب فهو لازم الثبوت وما انتفى عنه فهو لازم الانتفاء فإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم .
لكن هذا كله لازم المذهب وهو يدل على بطلانه . ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا بل أكثر الناس يقولون أقوالا ولا يلتزمون لوازمها . فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدا للتعطيل . بل يكون معتقدا للإثبات ولكن لا يعرف ذلك اللزوم .
وأيضا فإذا كانت أصولهم التي بنوا عليها إثبات الصانع باطلة لم يلزم أن يكونوا هم غير مقرين بالصانع وإن كان هذا لازما من قولهم . إذا قالوا : إنه لا يعرف إلا بهذه الطريق وقد ظهر فساده لزم أن لا يعرف . لكن هذا اللزوم يدل على فساد هذا النفي ولا يلزم أن لا يكونوا هم مقرين بالصانع لما قد بيناه في غير موضع أن الإقرار بالصانع ومعرفته ومحبته وتوحيده فطري يكون ثابتا في قلب الإنسان وهو يظن أنه ليس في قلبه .
ولهذا كان عامة هؤلاء مقرين بالصانع معترفين به قبل أن يسلكوا هذه الطريق النظرية سواء كانت صحيحة أو باطلة . وهذا
[ ص: 462 ] أمر يعرفونه من أنفسهم . فعلم أنه لا يلزم من عدم سلوك هذه الطريق عدم المعرفة . وقد اعترف كثير منهم بذلك كما قد بيناه في مواضع .
ومنهم من يقول : إن الطريق النظرية التي يسلكها زادته بصيرة وعلما . كما يقوله
ابن حزم وغيره . وهو سلك طريقة الأعراض .
وكثير من الناس يقول : إن هذه الطريق لم تفدهم إلا شكا وريبا وفطرة هؤلاء أصح فإنها طرق فاسدة .
ومنهم من يقول : لم يحصل لي بها شيء لا علم ولا شك . وذلك أنها لم تحصل له علما ولا سلمها فلم يتبين له صحتها ولا فسادها .
ومن الناس من لا يفهم مرادهم بها . وأكثر أتباعهم لا يفهمونها بل يتبعونهم تقليدا وإحسانا للظن بهم .