[ ص: 355 ] ما تقوله السادة العلماء - رضي الله عنهم - أجمعين في أناس قصاصين ؟ ينقلون مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الأنبياء - عليهم السلام - تحت القلعة وفي الجوامع والأسواق ويقولون : إن النبي أتى إليه ملك يقال له : حبيب فقال له : إن كنت رسول الله فإنا نريد أن القمر ليلة تسع وعشرين يعود وينزل من طوقك ويطلع من أكمامك فأراهم ذلك فآمنوا به جميعهم وقال : كانوا الرب .
ويقولون : إنه أتى إليه ملك يقال له : بشير بن غنام عمل عليه حيلة وأخذ منه تسع أنفس علقهم على النخل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا فخلصهم وكان من جملتهم خالد .
وأتى إليه ملك وهو في مكة يقال له : الملك الدحاق وكانت له بنت اسمها حمانة فكسر النبي صلى الله عليه وسلم وزوج بنته لبلال فقتله وهو في الصلاة فحط النبي صلى الله عليه وسلم بردته فأحياه الله له .
[ ص: 356 ] وأنه بعث المقداد إلى ملك يقال له : الملك الخطار فالتقى في طريقه ملكة يقال لها : روضة فتزوج بها وراح إلى الملك الذي أرسل إليه فاقتتل هو وإياه فأسره وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل في غزاة تبوك بولص بن عبد الصليب وأنه قاتل في الأحزاب وكانوا ألوفا وانكسرت الأحزاب قدام علي سبع عشرة فرقة وخلف كل واحدة رجل يضرب بالسيف ويقول : أنا علي - وليه - ضرب عمرو بن العامري فقطع فخذه فأخذ عمرو فخذه وضرب بها في المسلمين فقلع شجرة وقتل بها جماعة منهم والملائكة ضجت عند ذلك وقالوا : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي .
وأن عليا قاتل الجن في البئر ورماه بالمنجنيق إلى حصن الغراب وجاءت رميته ناقصة فمشى في الهواء وأنه ضرب مرحبا اليهودي وكان على رأسه جرن رخام فقسم له وللفرس نصفين وأنه عبر العسكر على زنده إلى خيبر وهد الحصن وأن ذو الفقار أنزل إليه من السماء فإن الله سماه من السماء وقال : علي أسبق من العجل وأنه بعث مع كل نبي سرا وبعث مع النبي جهرا وأنه كان عصا موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان وأنه شرب من سرة النبي صلى الله عليه وسلم لما مات فوزن علم الأولين والآخرين .
وأن ملك الموت جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في زي أعرابي [ ص: 357 ] فقال له النبي : قابض أم زائر ؟ فقال له : ما زرت أحدا من قبلك حتى أزورك فأعطاه تفاحة فشمها فخرجت روحه فيها وأن nindex.php?page=showalam&ids=25فاطمة بكت عليه حتى أقلقت أهل المدينة حتى أخرجوها إلى بيوت الأحزان وينقلون قصص الأنبياء من جنس هذا السؤال ويفسرونها بآيات لم تسمع من أهل العلم وكل واحدة من هذه تحزبوا فيها ليلة .
وكان بعض العلماء قد منعهم من هذا النقل وأنهم لا ينقلون إلا من كتب عليها سماعات المشايخ أهل العلم فاعتمدوا على كتب فيها من جنس ما ذكر من تصنيف رجل يقال له : البكري فما يجب عليهم في مثل هذه الأمور ؟ لأنهم ينقلون ما يخالف ما ثبت عن الرسل عليهم السلام وينقلون في بعض الأشياء ما هو تنقيص بهم وهل يثاب من أمر بمنعهم .
وينقلون أيضا : أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلقت فخلق الله من كل قطرة نبيا وكانت القبضة النبي وبقي كوكب دري وكان نورا منقولا من أصلاب الرجال إلى بطون النساء .
فأجاب شيخ الإسلام قدوة الإيمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني فقال : [ ص: 358 ] الحمد لله رب العالمين . هذه الأحاديث من الأحاديث المفتراة باتفاق أهل العلم وإنما تؤخذ مثل هذه الأحاديث من مثل " تنقلات الأنوار " للبكري وأمثاله ممن روى الأكاذيب الكثيرة .
وكذلك ما ذكر عن المسمى بالملك الدحاق كذب وهذا الاسم لا وجود له فيمن حاربه النبي صلى الله عليه وسلم عاش ولكن الذين عاشوا بعد الموت في هذه الأمة كان بينهم طائفة في زمن الصحابة والتابعين وأما من أحيا الله له دابته بعد الموت من المؤمنين فهؤلاء بعضهم كان من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان بعد موته صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 359 ] وكذلك ما ذكر عن الملك المسمى بالخطار هو من الأكاذيب ولا وجود له . وأما غزاة تبوك فلم يكن بها قتال ; بل قدم النبي صلى الله عليه وسلم بالشام رومهم وعربهم وغيرهم ولم يجتمع المسلمون في غزاة مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما اجتمع معه عام تبوك وهي آخر المغازي وأقام بتبوك عشرين يوما فلم تقدم عليه النصارى .
وكذلك الأحزاب لم يكن فيها اقتتال بين الجيشين بل كان الأحزاب محاصرين للمسلمين خارج الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة وكان المسلمون داخل الخندق وكان فيها مناوشة قليلة بين بعض المسلمين وبعض الكفار بمنزلة المبارزة أو ما يشبهها وقتل علي - رضي الله عنه - عمرو بن عبد ود العامري ولم تنكسر الأحزاب بقتال ولا قتل منهم ولا من المسلمين عدد له قدر بل أرسل الله عليهم الريح - ريح الصبا - وأرسل الملائكة كما قال تعالى في قصة الأحزاب : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } الآيات وما ذكر من كيفية قتل عمرو في عبد ود العامري فهو كذب وكذلك ضرب عمرو بن عبد ود الشجرة بفخذه وقلعها كذب ولم يكن هناك شجر وإنما النخيل كان بعيدا من العسكر .
وكذلك ما ذكر من مناداة المنادي بقوله : " لا سيف إلا ذو [ ص: 360 ] الفقار ولا فتى إلا علي " كذب مفترى . وكذلك من نقل أن ذلك كان يوم بدر أو غيره وذو الفقار لم يكن سيفا لعلي ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر وكان سيفا من السيوف المعدنية ولم ينزل من السماء سيف ولم يكن سيف يطول لا هو ولا غيره .
وما ذكر من رمي علي في المنجنيق ومحاصرة المسمى بحصن الغراب : كله كذب مفترى ولم يرم المسلمون قط أحدا في منجنيق إلى الكفار لا عليا ولا غيره بل ولم ينصب المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم منجنيقا إلا على الطائف لما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة حنين وهزيمة هوازن حاصر الطائف ونصب المنجنيق وأقام عليها شهرا ولم تفتح حتى أسلم أهل الطائف بعد ذلك طوعا ولما كان [ ص: 361 ] المسلمون يقاتلون مسيلمة الكذاب وأصحابه ألجئوهم إلى حديقتهم فحمل الناس البراء بن مالك حتى ألقوه إليهم داخل السور ففتح لهم الباب .
وأما قصة مرحب فقد روي في الصحيح : أن عليا رضي الله عنه قتل مرحبا وروي في الصحيح أن محمد بن مسلمة قتل مرحبا وقال بعضهم : بل إحدى الروايتين غلط .
وأما كون البيضة التي على رأسه كانت جرن رخام فكذب وكذلك كون الضربة قسمت الفارس وفرسه ونزلت إلى الأرض ; فهذا كله كذب ; ولم ينقل مثل هذا أهل العلم بالمغازي والسير وإنما ينقله الجهال والكذابون .
وأظهر من ذلك عبور العسكر على ساعد علي ومرور البغلة ودعاء علي عليها بقطع النسل ; فإن هذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بأحوال الصحابة ومن هو من أجهل الناس بأحوال الوجود ; فإن البغلة ما زالت عقيما ; وعسكر خيبر لم يكن فيه بغلة أصلا ولم يكن مع المسلمين بغلة ولا في المدينة بغلة ولا حولها من أرض العرب بغلة إلا البغلة التي أهداها المقوقس صاحب مصر للنبي صلى الله عليه وسلم وكان أهداها له بعد خيبر ; فإنه صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل الحديبية رجع منصرفا [ ص: 362 ] ففتح الله عليهم خيبر ثم رجع وأرسل إلى الملوك رسله فأرسل إلى كسرى وقيصر والمقوقس وملوك العرب بالشام واليمن واليمامة والمشرق ولكن المعروف عند أهل العلم أن عليا قلع باب خيبر .
وما ذكر من نزول ذو الفقار من السماء كذب وقد تقدم أنه كان سيفا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر منه فأما علي فقد سماه أبوه بهذا الاسم قبل أن يبعث الله محمدا بالنبوة وقبل أن يثبت لأحد حكم الإسلام : لا من الرجال ولا من الصبيان .
وأما قول القائل : إنه كان عصى موسى وسفينة نوح وخاتم سليمان فهذا لا يقوله عاقل يتصور ما يقول وهو بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء وهذا لا يقصد [ أحد ] مدح علي به إلا لفرط في الجهل فإن عليا هو ومن دونه من الصحابة أشرف قدرا عند الله من هذه الجمادات وإن كانت العصا آية لموسى فليس كل ما كان معجزة لنبي أفضل من المؤمنين بل المؤمنون أفضل من الطير الذي كان المسيح يصوره من الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأفضل من الجراد والقمل والضفادع والدم الذي كان آية لموسى وأفضل من العصا والحية وأفضل من ناقة صالح . فمن ظن أنه بهذا الكذب والجهل يمدح عليا كان جهله من المدح والثناء من جنس جهله بأن هذه الجمادات لم تكن آدميين قط .
[ ص: 363 ] وأما قول القائل : أنه شرب من سرة النبي صلى الله عليه وسلم فدرى علم الأولين والآخرين فهو أيضا من الأكاذيب فإن العلم الذي تعلم علي من النبي صلى الله عليه وسلم كان حاصلا قبل موته وما رزقه الله من الفهم والسماع وزيادة العلم بعد موته فلم يكن سببه شرب ماء السرة ولا شرب أحد على نبي ولا غير نبي فحصل له بذلك علم أصلا ولا كان أحد من الصحابة لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم يعلم علم الأولين والآخرين .
. ومن الأنبياء من يكون على شريعة غيره كما كان أنبياء بني إسرائيل على شريعة التوراة .
وأما كونهم كلهم يأخذون من واحد فهذا يقوله ونحوه أهل [ ص: 368 ] الإلحاد من أهل الوحدة والاتحاد : كابن عربي صاحب " الفتوحات المكية " و " الفصوص " وأمثالهما ; فإنه لما ذكر مذهبه الذي مضمونه أن الوجود واحد وأن الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وإن تعددت الأعيان الثابتة في العدم . قال : وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم حتى أن الرسل لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان وأما الولاية فلا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرونه إلا من مشكاة خاتم الأولياء .
وساق الكلام إلى أن ذكر أن خاتم الأنبياء موضع لبنة فضة وأن خاتم الأولياء موضع لبنتين : لبنة ذهب ولبنة فضة فهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه من الأحكام لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ; فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسل .
وأما قول بعضهم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70168كنت نبيا وآدم بين الماء والطين } فهذا نقل باطل نقلا وعقلا ; فإن آدم [ ليس ] بين الماء والطين ; بل الطين ماء وتراب ; ولكن كان بين الروح والجسد . فهذا ونحوه فيه [ ص: 370 ] علم الله بالأشياء قبل كونها وكتابته إياها وإخباره بها وذلك غير وجود أعيانها ; لأنها لا توجد أعيانها حتى تخلق ومن لم يفرق بين ثبوت الشيء في العلم والكلام والكتاب وبين حقيقته [ في ] الخارج وكذلك بين الوجود العلمي والعيني : عظم جهله وضلاله .
وأهل العلم قد أعظموا النكبة على من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج وإن كان لهؤلاء شبهة عقلية لكونهم ظنوا أن تميزه في العلم والإرادة يقتضي تمييزه في الخارج فإنهم أخطئوا في ذلك والتحقيق الفرق بين الثبوت العلمي والعيني وأما وجود الأشياء قبل خلقها فهذا أعظم في الجهل والضلال .
وكذلك دعواه أن خاتم الأولياء يأخذ العلم الظاهر من حيث يأخذه النبي ; ويأخذ العلم الباطن من المعدن الذي يأخذ منه الملك ما يوحيه إلى النبي ; فهذا من أعظم الكفر والضلال وهو مبني على قول المتفلسفة الذين يجعلون النبوة فيضا يفيض على عقل النبي ويقولون : إن الملك [ ص: 371 ] هو [ ما ] يتمثل في نفس النبي من الأشكال النورانية فيقولون : إن النبي يأخذ عن تلك الصور الخيالية وهي الملك عندهم فمن أخذ المعاني العقلية عن العقل المجرد كان أعظم وأكمل ممن يأخذ عن الأمثلة الخيالية فهؤلاء اعتقدوا أقوال هؤلاء الفلاسفة الملحدين وسلكوا مسلك الرياضة فأخذوا يتكلمون بتلك الأمور الإلحادية الفلسفية ويخرجونها في قالب المكاشفات والمخاطبات .
وما ذكروه من خاتم الأولياء لا حقيقة له وإن كان قد ذكره الحكيم الترمذي في كتاب " خاتم الأولياء " فقد غلط في ذلك الكتاب غلطا معروفا عند أهل المعرفة والعلم والإيمان . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .