[ ص: 280 ] وسئل رحمه الله عمن يقول : إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة : هل قوله صواب ؟ وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل أو الألفاظ الواردة المحتملة ؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية : هل قوله صواب ؟ وما حجته على ذلك ؟ وما معنى قولهم : النص ؟
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وغيره وهو خطأ ; بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد . ومنهم من يقول : إنها وافية بجميع ذلك ; وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد وذلك أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد .
[ ص: 281 ] مثال ذلك أن الله حرم الخمر فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك أو حرم معه بعض الأنبذة المسكرة كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد وهذا الخمر عنده ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه . ويحرم النيء من نبيذ التمر فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده . وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر .
وأما nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة وهو اختيار nindex.php?page=showalam&ids=11903أبي الليث السمرقندي .
ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس : إما في الاسم وإما في الحكم ; وهذه الطريقة التي سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم .
وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت ؟ من الحبوب أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك .
ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال : إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب بل كان ذلك ثابتا بالقياس وهؤلاء غلطوا في فهم النص . ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة [ ص: 283 ] من خمر العنب شيء ; فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب وإنما كان عندهم النخل فكان خمرهم من التمر ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول [ غيره ] ; أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه المبين عن الله مراده فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة وتارة فيما هو أخص .
وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل ؟ كالذي يشتري العبد الآبق والبعير الشارد وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله تعالى يتناول هذا كله وما ثبت في صحيح مسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=81044عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر } يتناول كل ما فيه مخاطرة كبيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع الأجنة في البطون وغير ذلك .
ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا [ ص: 284 ] النسأ وربا الفضل ; والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول لهذا كله ; لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك وهذا الذي يسمى : تحقيق المناط .
وكذلك قوله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ونحو ذلك يعم بلفظه كل مطلقة ويدل على أن كل طلاق فهو رجعي ولهذا قال أكثر العلماء بذلك وقالوا : لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة ثلاثا ويدل أيضا على أن الطلاق لا يقع إلا رجعيا وأن ما كان بائنا فليس من الطلقات الثلاث فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث كقول ابن عباس والشافعي في قول ; وأحمد في المشهور عنه لكن بينهم نزاع : هل ذلك مشروط بأن يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته أو بالخلو عن لفظه فقط ; أو لا يشترط شيء من ذلك ؟ على ثلاثة أقوال .
وكذلك قوله تعالى { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } و { ذلك كفارة أيمانكم } هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين فمن العلماء من قال : كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة كما دل عليه الكتاب والسنة . ومنهم من قال : لا يتناول النص إلا الحلف باسم الله وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها . ومنهم من قال : بل [ ص: 285 ] هي أيمان يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تدخل في النص ولا ريب أن النص يدل على القول الأول فمن قال : إن النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين كان هذا رأيا منه لم يكن هذا مدلول النص .
وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال . وكان الإمام أحمد يقول : إنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا .
والنوع الثاني من القياس : أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوي بينهما وكان هذا قياسا صحيحا .
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهم ا وهما من باب فهم مراد الشارع ; فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ وإذا عرفنا مراده : فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص [ ص: 287 ] الأصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس ونحو ذلك فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره .
وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد وكل من ألحق [ ص: 288 ] منصوصا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد لكن من القياس ما يعلم صحته ومنه ما يعلم فساده ومنه ما لم يتبين أمره . فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته .
فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى : ما يعلم صحته وإلى ما يعلم فساده وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدهما . ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة وهذا هو المراد من قول من قال : النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين . ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض كقوله { تلك عشرة كاملة } و { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } فالكتاب هو النص والميزان هو العدل .
والقياس الصحيح من باب العدل ; فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح .
[ ص: 289 ] ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة . فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة ; فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك ; فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين وخروج عن موجب القياس الصحيح كما هو خروج عن موجب النصوص وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس لكن يقولون : معنا آثار توافقه اتبعناها ويقولون : إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر . وغلطوا في فهم النص - وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم - ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وقد قال تعالى : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } .
والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا والله أعلم .