وأصل آخر وهو : أن
الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو
[ ص: 17 ] عن النجاسة فيعفون من المغلظة : عن قدر الدرهم البغلي ومن المخففة : عن ربع المحل المتنجس .
والشافعي بإزائهم في ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء ; وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله في النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة
ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها ; فإنه لا يقول
بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره .
وأحمد كذلك ; فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن
اليسير من النجاسات التي يشق الاحتراز عنها حتى إنه في إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش ; وغير ذلك مما يشق الاحتراز عنه بل يعفو في إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى في شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف أصحاب
مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم تجب عليه الإعادة في أصح الروايتين ; كقول
مالك كما دل عليه حديث
[ ص: 18 ] النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذى الذي فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما
صلى الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة . والرواية الأخرى : تجب الإعادة كقول
أبي حنيفة والشافعي .
وأصل آخر في إزالتها فمذهب
أبي حنيفة : تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات .
والشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى
ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل : لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء ; وحتى نجاسة الأرض .
ومذهب
أحمد فيه متوسط ; فكل ما جاءت به السنة قال به : يجوز - في الصحيح عنه - مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه كما جاءت به السنة . كما يجوز مسحها من السبيلين ; فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها .
واختلف أصحابه في أسفل الذيل : هل هو كأسفل الخف ؟ كما جاءت به السنة واستواؤها للأثر في ذلك . والقياس : إزالتها عن الأرض بالشمس والريح يجب التوسط فيه .
فإن
التشديد في النجاسات جنسا وقدرا هو دين
اليهود والتساهل
[ ص: 19 ] هو دين
النصارى ودين الإسلام هو الوسط . فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام .
وأصل آخر : وهو اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول
الكوفيين فيه من الشدة ما لا خفاء به .
وسر قولهم : إلحاق الماء بسائر المائعات ; وأن
النجاسة إذا وقعت في مائع لم يكن استعماله إلا باستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة .
وبإزائهم
مالك وغيره من
أهل المدينة ; فإنهم - في المشهور - لا ينجسون الماء إلا بالتغير ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات .
ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول
الشافعي .
واختلف قوله في
المائعات غير الماء : هل يلحق بالماء ; أو لا يلحق به كقول
مالك والشافعي ؟ أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب ؟ على ثلاث روايات .
[ ص: 20 ] وفي هذه الأقوال من التوسط - أثرا ونظرا - ما لا خفاء به مع أن قول
أحمد الموافق لقول
مالك راجح في الدليل .